الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن (1809 – 1865(
فلنضع جانباً المشاعر والمواقف الشخصيّة، أكانت إيجابية أم سلبيّة، تجاه الرئيس التركي.
فلننحّ، ولو على مدى بضعة سطور، كلّ القراءات غير الموضوعيّة وغير المتجرّدة لتجربة أردوغان وحزبه الإسلامي في السلطة منذ 2002، لا سيّما تلك التحليلات التي تنتشر في العالم العربي التي تنبع في أغلب الأحيان من الموقف التاريخي لكلّ شخص أو حزب أو طائفة أو نظام من تركيا ومن دور نظامها الحالي في دعم ثورات الربيع العربي منذ 2011.
فيما يلي، لا يهمّ إذا كان مؤيّدو أردوغان والمنحازون لسياسته يغرقون في تلك النزعة التبجيليّة التي لا ترى إلا الإيجابيّات في تجربة حكمه، والتي ترفض الاعتراف بأدنى قمع للحريات أو تضييق إعلامي أو خرق لحقوق الإنسان أو محاولة للتفرّد بالحكم في عهده.
في المقابل، لا يهمّ أيضاً إذا كان خصوم أردوغان وأعداؤه يسبحون في فضاء من الكراهية التي تعمي البصائر، والتي تصرّ على نكران أي تقدّم ديمقراطي، أو أدنى تطوّر اجتماعي أو ازدهار مالي واقتصادي في عهد استطاع أن يجعل من تركيا عضواً في مجموعة العشرين، وإيفاء ديونها، والانتقال باقتصادها من المرتبة 116 إلى المرتبة 11عالميّاً، وأن يقدّمها كمرشّحة قويّة للعضوية الدائمة في مجلس الأمن، إلى جانب الدول الخمس الحاليّة، وذلك في حال تمّ تعديل شرعة الأمم المتّحدة.
فليغنّ كلّ على ليلاه ما طاب له ذلك.
ولكن عندما يتعلّق الأمر بتحديد موقف مبدئي من حدث بحجم الانقلاب العسكري الذي فشل في تركيا ليل 16/15 يوليو/تمّوز 2016، فلا يمكن بناء هذا الموقف على أي من تلك التحيّزات غير الموضوعيّة الآنفة الذكر.
فالمسألة عندئذ لا تعود مجرّد مسألة سياسة ظرفيّة، ولا مسألة تأييد لأردوغان وحزبه أو معارضتهم، ولا مسألة تأييد لإسلاميين أو لعلمانيين، ولا مسألة تأييد لعهد يعادي محوراً معيّناً أو يدعمه، بل تتعدّى كلّ ذلك لتصبح مسألة بنيويّة مبدئيّة تتعلّق بماهيّة نظام دستوري (الديمقراطيّة) وبحريّة شعب.
وهذا بالضبط ما أدركته سريعاً المعارضة التركيّة فوقفت، وعلى الرغم من الوادي السياسي لا بل العقائدي السحيق الذي يفصل بينها وبين أردوغان، بوجه الانقلاب، ودعمت النظام الديمقراطي، فقد أثبت الشعب التركي بنزوله إلى الشارع على اختلاف ملله وانتماءاته وتيّاراته أنّه على درجة عالية من الوعي والثقافة الديمقراطيّة التي ما زالت تفتقر إليهما شرائح واسعة من شعوبنا العربيّة.
فقد شكّلت هبّة الشعب التركي بوجه الانقلاب خير دليل على أنّ "الديمقراطيّة هي اليوم" بشكل أساسي، على حدّ ما قاله منذ 1956 العلّامة الفرنسي في القانون الدستوري والعلوم السياسيّة جورج بوردو، "فلسفة، أسلوب حياةٍ، ديانة، وعلى صعيد ثانوي تقريباً، هي شكل من أشكال الحكم"*.
أوّلاً: جدليّة البوط العسكري في العالم العربي والإسلامي
محاولة الانقلاب التي حصلت في تركيا أعادت تظهير الديالكتيك الأساسية التي تتمحور حولها – على الأقل منذ 2011 – الانقسامات الجوهريّة العابرة لشعوب المنطقة، لا سيّما العربية منها، وبأنّ كلّ ما عدا ذلك يبقى، على أهميّته، جدالاً ثانويّاً.
فمن جهة أولى، ولأسباب مختلفة – أهمّها الثقافي والتربوي والعقائدي والخوف الطائفي، لا سيّما الأقلّوي – هناك من ما زال مقتنعاً بأن البوط العسكري هو الحلّ والحماية، فيمجّده، ويتغزّل به، ويتشدّق به، ويتشردق به، ويضعه صورة لبروفايله عند كلّ أزمة، ويتزلّف له، ويقبّله على الهواء، ويتنفّس عليله، ويصبغه بالعلمانيّة لتثمينه، وبقليل من دهن لوز التقدميّة والحداثة لتلميعه.
بالمقابل، هنالك الذين يدركون -على تعدّد انتماءاتهم الثقافية والسياسية والطائفية- أن التزلّف لهذا البوط شكّل، على مدى كل هذه السنوات، العلّة الأساسيّة في مجتمعاتهم وأصل المشكلة في تخلّفها، كما أنّهم يعلمون علم اليقين أن للإنسان قيمة، وأن هذه القيمة هي أكبر من أن يكون صاحبها مجرّد عبد لحذاء، ومهما كانت المخاطر التي تتهدّده.
طبعا، إنّ الانقسام بين المعسكرين ليس دائماً بهذا الوصف المانوي، حتّى ولو اقترب منه إلى حدّ كبير في أغلب الأحيان.
هل يشكّل فشل الانقلاب في تركيا درساً لكلّ الشعوب المنطقة؟ فطالما سنظلّ في العالم العربي والإسلامي نبني مواقفنا من أنظمة الحكم على النكايات الحزبية وعلى ازدواجية معايير آنيّة وغير موضوعية وشوفينية ضيّقة، لن تقوم لنا قائمة ولن نعرف للديمقراطيّة من سبيل.
أصبح من الملحّ والضروري أن نتخلّى عن مركّبات الخوف وأحقاد الماضي وموروثات التزلّف والزبائنية والتقوقع الطائفي، وذلك للعبور من أنظمة حكم اعتباطية تعسفية قمعية قبليّة، إلى حكم الديمقراطية في ظلّ دولة القانون والمؤسّسات والمحاسبة الشعبيّة.
ثانياً: النزعة النيو – كولونياليّة في الغرب
ربّما من الطبيعي إلى حدّ ما أن نجد مثل هذا الجدل (ديمقراطية/حكم العسكر) في مجتمعات سلكت أخيراً، أي فقط منذ 5 سنوات، مخاض تحرّر تدريجي وعسير بعد عقود من الحكم العسكري، ولكن ما يدعو إلى الاستغراب والاشمئزاز هو دعم أعرق الديمقراطيات في العالم ومجتمعاتها -تارة من تحت الطاولة وتارة بشكل واضح وصريح- الانقلابات العسكرية في الشرق الأوسط منذ استقلال دول هذه المنطقة وحتّى يومنا هذا.
وما السكوت المدوّي للدول الأوروبية والولايات المتّحدة الأميركية في الساعات الأولى من الانقلاب قبل فشله في تركيّا، إلّا خير دليل على ذلك، ويتعارض هذا السكوت بشكل فاضح مع الدعوات والتصريحات والخطابات والمقالات والتقارير -وهي محقّة- التي استفاقت فجأة بعد فشل الانقلاب والتي أخذت تتباكى وتطالب الحكومة التركيّة بالحفاظ على حقوق الانقلابيّين وعدم الغلوّ في معاقبتهم، ناهيك عن التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي في هذه الدول الغربيّة والمهلّلة -بأكثريّتها الساحقة- للانقلاب، فالمتحسّرة على فشله، ثمّ الآملة بنجاح محاولة عسكرية أخرى في القريب العاجل.
إنّ هذا النوع الخبيث من النفاق السياسي والرياء الثقافي المتمثّل بازدواجيّة المعايير الغربيّة (دون أن يعني ذلك كلّ الغرب) عندما يتعلّق الأمر بديمقراطية الشعوب غير الغربيّة وبحريّتها -والذي يروّج له أيضاً الكثير من المثقّفين والإعلاميين العرب- هو مؤسف ومدان وساقط أخلاقيّاً.
ففي حين أنّ الدول والمجتمعات الغربية هي الأكثر تمسّكاً وفخراً بديمقراطيّتها وبحريّاتها، نراها تضرب فجأة بعرض الحائط كلّ هذه المبادئ التي تشنّف بها آذان الكرة الأرضيّة على مدار السنين، وتتنكّر لقيمها، وتتناسى حتّى ادعاءاتها محاربة الإرهاب بنشر الديمقراطيّة (مشروع الشرق الأوسط الكبير)، وذلك حالما لا تأتي نتائج اللعبة الديمقراطيّة في الدول العربية والإسلامية مطابقة لرغباتها.
ولتبرير هذه الازدواجية في المعايير، يتمّ التذرّع بأنّه لا يكفي حصول انتخابات حرّة ونزيهة كي يكون النظام ديمقراطيّاً.
ولكن تبقى هذه الذريعة (البدعة) ضعيفة جدّاً، فهي تخلط بين مفهومي الديمقراطية والليبراليّة من جهة أولى، كما أنّها غالباً ما تقوم على مقاربات تاريخيّة خنفشاريّة لا تصحّ علميّاً.
وفي جميع الأحوال، حتّى لو سلّمنا جدلاً بأنّ الانتخابات ليست شرطاً كافياً لتحقيق الديمقراطية، فإنّ ذلك لا يمكنه أن يشكّل سبباً كافياً لدعم انقلاب عسكري. فهل يعقل أن تكون حكومة عسكريّة غير منتخبة وتطبّق الأحكام العرفية، أكثر شرعيّة وديمقراطية واحتراماً لحقوق الإنسان ولحريّات الشعب التركي من رئيس وحكومة منتخبين ديمقراطياً، لا سيّما أنّ الحزب الذي ينبثقان منه قد حاز أخيراً -مرّتين في ظرف 5 أشهر- أكثرية نيابية في البرلمان التركي (في انتخابات يونيو/حزيران، ثمّ نوفمبر/تشرين الثاني 2015)؟
وهل يعقل أن يتمّ مثلاً احترام إرادة أكثرية الشعب في بريطانيا الذي صوّت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي -وذلك على أثر حملة من الأكاذيب والأضاليل، مع كلّ ما يتأتّى عن استفتاء البريكزيت من نتائج كارثية- وفي نفس الوقت عدم احترام إرادة أكثرية الشعب التركي؟ وهل يمكن أن نتخيّل ولو للحظات أن يقوم الجيش البريطاني بانقلاب عسكري لإلغاء نتائج الاستفتاء؟
وهل فيما لو وصل اليمين المتطرّف -وهو الآخذ في الصعود السريع جدّاً- للحكم في إحدى الدول الأوروبية، كمارين لوبين إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية في العام القادم مثلاً (دون أن يعني ذلك تشبيه هذه الأحزاب بحزب العدالة والتنمية في تركيا)، أو فيما لو تبوّأ الإسلاموفوبي والكزينوفوبي دونالد ترامب منصب رئيس الولايات المتّحدة، هل يعني ذلك أنّه يحقّ للجيش الفرنسي أو الأميركي القيام بانقلاب عسكري لإلغاء نتائج الانتخابات؟
بالخلاصة، هل يقبل مواطنو الدول الغربية بأن يحصل التغيير السياسي وتداول السلطة في بلادهم بطرق غير ديمقراطية ومخالفة للدستور والقوانين ولانتظام العمل المؤسّساتي، لا سيّما عندما تكون شعبيّة بعض قادتهم في الحضيض (كالرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند مثلاً)؟
تعكس هذه الازدواجيّة في المعايير نزعة نيوكولونيالية فاقعة لا تخلو من الأبويّة المتعجرفة. فبالنسبة للإعلام الغربي ولدوائر القرار ولشرائح واسعة من المجتمعات الغربية، ما زالت الشعوب العربية والإسلامية غير ناضجة وغير مسؤولة بما فيه الكفاية لممارسة الديمقراطيّة واختيار حكّامها، وهي على جميع الأحوال لا تستحقّ الديمقراطية إلّا إذا جرت رياح صناديق الاقتراع فيها بما تشتهيه سفن بعض هذا الغرب.
وللتوسّع في فهم هذه النزعة، يمكن العودة إلى مؤلّفات الباحث والكاتب الفلسطيني – الأميركي إدوارد سعيد، لا سيّما كتابه "الاستشراق" الصادر سنة 1978 والذي ما زال يشكّل، رغم الجدل الواسع الذي أثاره، مرجعاً أساسيّاً في الدراسات النقدية النيوكولونيالية.
تبقى الديمقراطيّة -على عللها النظرية والتطبيقية الكثيرة- شكل الحكم الأقل سوءاً، وغالباً ما شكّل إفشال الشعب للانقلابات العسكرية ترسيخاً جذرياً للديمقراطية، فالانقلاب الذي فشل في إسبانيا سنة 1981 شكّل نقطة اللاعودة إلى الحكم الديكتاتوري الذي كان قد دام أربعة عقود تحت فرانكو، وانقلاب الصقور على غورباتشيف وإصلاحاته (البيريسترويكا والغلاسنوست) الذي أفشله الشعب الروسي بقيادة يلتسين سنة 1991، عجّل بسقوط الاتحاد السوفيتي وبتخلّص شعوب هذا الاتحاد، لا بل أغلب بلدان أوروبا الشرقية والوسطى، من الحكم الشيوعي القمعي، ومن دبّابات حلف وارسو التي كانت تظهر عند كلّ موجة اعتراض شعبية، ومن أوهام ديكتاتورية البروليتاريا وتخرّصات الديكتاتور العادل.
*Georges Burdeau، La démocratie، Seuil، 1956
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.