نفسية الإنسان شيء مُعقد جداً، ومع كل التقدّم العلمي الذي حققته البشرية إلى الآن، ما زالت هناك مساحات معينة في نفسية البشر تفسيرها غير كامل.. ومن أكثر المؤثرات المُذهلة في نتائجها على نفسية البشر وتصرفاتهم وردود فعلهم، "السُلطة"؛ التي لا يُشترط أن تكون سُلطة سياسية، لكن يكفي أن يشعر الإنسان بأنه متحكِّم في إنسان آخر، ويقدر أن يقرر له أفعاله واختياراته، ويعاقبه لو خالف أوامره وأحلامه.. أكثر من تجربة نفسية علمية مشهورة، درست فكرة السُلطة، تحديداً كيف تستطيع تغيير الإنسان، وتخرج أسوأ ما فيه.
وكأن إدراك الإنسان أن هناك إنساناً غيره واقع تحت سيطرته وأَسره؛ لأي مبرر، كفيل بأن يجرد الإنسان المُسيطر من كل أقنعة تحضُّره، ويستدعي من أعمق مكان داخله نزعات السادية والسيطرة وفرض السطوة والعقاب.
ولأن الحب والانجذاب العاطفي تجاه شخص ما، أحد أكثر الأشياء التي تعطل قدرة الإنسان على التحكم في كثير من تصرفاته، وسَكرة الحب تحديداً في أوله تعمي الإنسان عن حقائق كثيرة، مهما كانت واضحة لغيره؛ فالعلاقات العاطفية هي أكثر العلاقات الإنسانية التي تضع الإنسان في موقع الضحية للاستغلال المادي والمعنوي؛ لوقوعه تحت سُلطة طرف ثانٍ غير سويٍّ.
شاهدت هذه القصة تتكرر أمامي كثيراً جداً، باختلاف بسيط في التفاصيل.. يكون هناك طرف منهم صعب الوصول له؛ لأنه ابتعد بنفسه عن الجنس الآخر بشكل ما، لا يفكر في الارتباط العاطفي بأي شكل.. يبدأ الطرف الثاني ويحاول أن يتقرب منه، بكل الطرق الممكنة.. حتى لو اضطر بالتوسل إليه، يطارده، يستعطفه، أي وسيلة، لكن المهم أن يجعله يحبه، ويدخله منطقة ثقته.
ومن هذه اللحظة، وبالتدريج وبتصاعُد في الوتيرة، تبدأ كل الأشياء في التغير بمجرد أن يضمنه، ويشعر بأنه أصبح ملكاً له، خصوصاً أن عادة الإنسان الذي يكون كسب ثقته صعباً في البداية، عندما يحب ويتعلق بشخص آخر يكون من السهل أن يقع تحت سُلطة الطرف الثاني باسم الحب، ويكون ضحية سهلة للابتزاز العاطفي.. والاستعباد بسُلطة الحب الوهمي.
بالنسبة للكثير من غير الأسوياء، الشيء البعيد دائماً جذاب، يكون بالنسبة إليهم، مغرياً، حتى يقع في إيدينا.. حينها المعاملة تتغير، الاهتمام يقل حتى ينعدم، حرارة المشاعر تقل حتى تموت، وتسوء المعاملة، ويسعى بكل الطرق لاستغلال سُلطة يعطيها لنفسه باسم الحب على الطرف الثاني، فيحاول أن يقهره.
للأسف، عادة الإنسان الذي يعاني نقصاً؛ فإنه يحاول أن يعوّض هذا من خلال استغلال أي سُلطة له على من حوله، حتى لو كانت هذه السُلطة في نشاط طُلابي، أو في علاقته مع شريكه في علاقتهما العاطفية.. ولأننا في مجتمع يُنتج الأمراض النفسية ومُركبات النقص، كما ينتج الفساد الأخلاقي والسياسي والاجتماعي، سنجد حالات القهر والاستغلال من بوابة المحبة كثيرة جداً، حتى تكاد تُشكّل نسبة كبيرة من العلاقات العاطفية في مجتمعنا.
لا يستطيع الإنسان أن يظلم أحداً كما يظلم نفسه، خصوصاً عندما ينسى قيمتها، ويسمح لإنسان آخر باستغلاله، ويفرض عليه قواعد للعلاقة هو يستحق أفضل منها بكثير جداً.. حتى يستطيع شخص ما استعباد غيره باسم الحب، ويفرض عليه سُلطة ويبدأ عملية القهر بالتدريج. هذا الإنسان المقهور تكون لديه من الداخل قابلية الانسحاق، مستعد أن يرى نفسه بلا قيمة له، لا يرى ولا يؤمن بأنه يستحق الأفضل، مستعد لأن يتعرض للاستغلال حتى يحصل على أبسط الأشياء من حقوقه الأصلية.
الحب هو أكثر علاقة إنسانية يمكن أن يبذل الإنسان فيها تضحيات كثيرة؛ حتى تكتمل، خصوصاً لو كان الطرف الثاني سيسهم ويضحي أيضاً.. لكن القبول بدور الضحية، والخضوع لممارسات غير سويّة؛ لتعويض عُقَد نقص طرف على حساب الثاني، ليس به أي نوع من التضحية.. هذا جحود تجاه النفس.. ولا يوجد في هذا العالم أسوأ من جحود الإنسان تجاه روحه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.