عندما يضرب التضخم الجامح في الأسعار مجتمعاً ما يؤدي ذلك إلى تغيير ترتيب التركيبة السكانية، بما يعني إعادة ترتيب الطبقات الاجتماعية، فترتفع طبقات وتتلاشى أو تنخفض أخرى، ففي أوقات التضخم تكون الفئات الأكثر قدرةً على مواجهة التضخم هم أصحاب المهن والحرف والأعمال الحرة والتجار، فهؤلاء يمكنهم نقل عبء التضخم إلى المستهلك لخدماتهم أو سلعهم.
وتكون الفئة الأكثر تضرراً الموظفين أصحاب الدخول الثابتة، فهؤلاء ينحدر بهم المستوى المعيشي إلى مستوى جديد من مستويات الفقر.
وعندما يحدث ذلك، فإن مستوى الخدمات الحكومية ينهار؛ لأن الموظفين أصبحوا غير قادرين على تأدية وظائفهم بكفاءة وذهن حاضر؛ لأن الفقر والاحتياج أصبح يشغلهم عن القدرة على التفرغ لوظائفهم، فمنهم مَن يتجه إلى عمل إضافي أو تجارة، ومنهم من يتجه إلى الرشوة والتربح من وظيفته، وينتشر الفساد بين الموظفين، ويضرب الفساد بجذوره فى الهيكل الإداري كله للدولة.
وفي الاتجاه المقابل فإن أصحاب الدخول المتغيرة من الحرفيين والتجار وأصحاب الأعمال الحرة، كما ذكرنا، يستطيعون نقل عبء التضخم على غيرهم، وينتج عن ذلك أن تصبح هذه الفئات هي من تمتلك النصيب الأكبر من الأموال في المجتمع .
فينتج عن ذلك أمران:
أولاً: يختل الذوق العام ويتجه إلى إرضاء هذه الفئات؛ لأنها هي التي تملك النصيب الأكبر من الأموال، وتستطيع ترقية الطلب من خلال الأموال التي تمتلكها على نوعية الفن التي ترغبها؛ لذلك ينتشر الفن الذي يعبر عن هذه الفئات مثل الأغاني الشعبية وأفلام البلطجية، وتجار المخدرات التي تعبر عن هذه الطبقة التي أصبحت تمتلك النصيب الأكبر من الأموال وترقى الفن الذي يناسبها.
ثانياً: يقل دور وأهمية العلم والتعلم فى هذا المجتمع؛ حيث يرى الناس أن التعلّم والوظائف ليست هي الوسيلة للترقي، والحصول على المال، وأن تعلم الحرف البسيطة أفضل من طريق التعلم، والوظيفة التي لم تعد تكفي أصحابها.
وعندما يسود التضخم في المجتمع تختل القيم نفسها، فيصبح المجتمع أكثر مادية وتصارعاً، وتسود روح ثقافة الفهلوة وانتهازية الوصول على حساب القيم؛ لتكون عرفاً للمجتمع ونموذجاً للنجاح.
وينتشر الضيق بين النفوس وأمراض الاكتئاب، وتتوتر الأعصاب وترى المشاجرات تكثر فى كل الأماكن، سواء بسبب الاختلاف حول تقدير قيم الأشياء التي ارتفعت أسعارها، أو بسبب توتر الأعصاب وإحساس الناس بالضغط النفسي من جراء ارتفاع الأسعار.
وفي حالة إذا كان ارتفاع الأسعار كبيراً جداً يضرب الأسواق الكساد، ولا يستطيع أصحاب الدخول المتغيرة من الحرفيين والتجار نقل عبء التضخم؛ نظراً لأن الارتفاع الشديد أصاب كل الحرف والأسواق بالكساد، فتتحول هذه الفئات إلى السرقة والإجرام، وارتكاب الجرائم؛ لأنهم يقتاتون أرزاقهم يوماً بيوم، وهذا الكساد والتضخم أوقف أعمالهم، ولم يعد أمامهم سوى تكوين عصابات للسرقة والنهب من أجل أن يستطيعوا العيش.
وفي نفس الوقت، تكون الدولة ضعفت فى هيكلها الإداري وفي خدماتها، وأصبحت غير قادرة على الإنفاق، فتتراجع خدمات الأمن والنظام، وتنتشر أعمال البلطجة والإجرام، ويغيب الأمن في الشارع، والأكثر من ذلك أن بعض رجال الأمن تحت ضغط التضخم، يلجأون للتعاون مع العصابات والبلطجية من أجل الحصول على المال لمواجهة أعباء التضخم، فيشكلون مع البلطجية عصابات منظمة. وعندما ترغب الحكومة فى تحسين خدماتها ورفع مرتبات موظفيها، فتلجأ إلى الاقتراض من الخارج الذى يكون حلاً مناسباً فى بداية الأمر، وتستمر فيه حتى تصل الدولة إلى مرحلة اقتراض ديون جديدة من أجل سداد الديون القديمة، وتظل دائرة الديون تتسع حتى تأكل فوائد الديون النفقات العامة، فلا تتمكن الدولة من أداء وظائفها في توفير الأمن والمرافق والخدمات الأساسية، فتلجأ إلى فرض ضرائب كثيرة أو بيع الأصول العامة لتوفير النفقات.
وعند هذه اللحظة تكون الدولة في أشد حالات ضعفها وقريبة جداً من الانهيار وتجري عليها سنن الاستبدال.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.