كم كان من المستهجن منذ أشهر قليلة "فقط" التكهن بحدوث قمة "محبة" روسية تركية، فلو أن باحثاً أو سياسياً خرج علينا منذ ستة أو سبعة أشهر ليخبرنا بأن ثمة تقارباً حميماً سيخيم على العلاقات الروسية التركية؛ لكان حديثه هذا محلاً للسخرية والاستهزاء من الجميع، إذ لم يكن في الحسبان أن يتصافح القيصر مع السلطان، أو أن يبادل كل منهما الآخر عبارات الغزل والحب والمودة، وليس السبب في هذا هو إسقاط تركيا للطائرة الحربية الروسية على الحدود التركية السورية وتصاعد الأزمة إلى احتمالية نشوب حرب بين البلدين فحسب، بل لأن العلاقات التركية الروسية طالما كانت عصية على التقارب والتجاذب منذ الحرب العالمية الأولى، ووصولاً إلى الخلاف المحتدم بينهما على الملف السوري.
لقد اختار الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" أن يتجاوز كل تاريخ الخلافات الروسية التركية، وأن يتخذ من نظيره الروسي "فلاديمير بوتين" صديقاً مقرباً له، تصديقاً لعبارة "صديقي العزيز" التي رددها ثلاثة مرات في خلال دقائق معدودات فقط، ليعلن بذلك تاريخ جديد من الحب والمودة بين البلدين، فهل ألقى "أردوغان" وراء ظهره "حقاً" كل الخلافات السياسية، والنزاعات الحدودية، والقضايا المفصلية الراهنة بين تركيا وروسيا؟ وهل ضرب بالمصالح التركية الأوروبية المتمثلة بـ"الاتحاد الأوروبي" وحلف "الناتو" طول الحائط وعرضه؟
وهل جلوسه على طاولة المفاوضات التركية-الروسية، هو اعتراف منه بحاجة تركيا الملحة والضرورية للتقارب مع روسيا تحقيقاً لكثير من المصالح والمكاسب الاقتصادية التي يعد التخلي عنها خسارة فعلية وحقيقية لتركيا؟ أم هو اعتراف منه بحاجة تركيا الماسة للغطاء والدعم السياسي الروسي الحالي والسريع بعد التدهور المصيري لتركيا في السياسة الخارجية؟
مما لا شك فيه بأن كل التداعيات الاقتصادية التركية، من حيث توقف السياحة الروسية إلى تركيا، والتي تقدر بأربعة ملايين سائح روسي سنوياً، يتبعها السياحة الإيرانية المقدرة بمليون ونصف المليون سائح سنوياً، والتداعيات السياسية المتمثل في تهديد أكراد تركيا والانفصاليين لوحدة تركيا وسلامتها؛ ومحاولة الانقلاب الفاشلة التي تبين تورط دول عظمى في تدبيرها؛ ووصول تنظيم داعش إلى قلب العاصمة التركية "أنقرة"؛ وقضية اللاجئين السوريين على الحدود التركية وأزمة اللجوء إلى أوروبا؛ وتدهور العلاقة التركية الغربية ووصولها إلى أسوأ حالاتها بعد محاولة الانقلاب، والتطورات العسكرية والسياسية على الأراضي السورية ودور تركيا فيه، هي في حقيقتها ضرورات تركية ملحة يتم "فعلياً" تداولها على طاولة التفاوض القمة التركية الروسية.
ولكن.. لماذا هذا الوقت تحديدا؟ لماذا لم يكن الموعد المقرر للقمة في موعد سابق أو لاحق لهذا الميعاد؟ كما لو كان -مثلاً- في أعقاب الاتصال الهاتفي الذي أجراه أردوغان مع بوتين للاعتذار عن ضرب الطائرة الحربية الروسية؟ فهل السبب هو محاولة الانقلاب الفاشلة وتورط الولايات المتحدة في تدبيره؟ بالطبع نعم، وهل السبب هو تكالب الغرب الأوروبي على الرئيس التركي ومحاولته الدفع بتركيا خارج القارة الأوروبية واتحادها؟ بالطبع نعم..
لكن الخلافات التركية الأوروبية هي ليست بجديدة ولا وليدة اليوم والساعة! ومحاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرض إليها أردوغان لم تأتِ من الفضاء فجأة بلا مقدمات! وقد كان بإمكان الرئيس التركي التريث بضعة أشهر "أخرى" قبل توجهه لاهثاً نحو روسيا، لكن أردوغان اختار أن يلتقي بوتين ويضرب ضربته في خاصرة الغرب في هذا الوقت تحديداً، لتكون ضربته كما يشاع وكما يقال "ضربة معلم"، حيث أدرك الرئيس التركي جيداً، بأن أوباما الذي يجمع أوراقه ويهيأ نفسه للرحيل عن البيت الأبيض؛ هو الآن بمثابة "الحصان الأعرج" في حلبة السباق، حيث لا يضر ولا ينفع، وأن ليس بمقدوره اتخاذ أي قرار أو إجراء أي تغيير مفصل أو جوهري في السياسة الأميركية الداخلية أو الخارجية في الوقت الراهن ما لم يحدث "زلزال" سياسي يضطره لهذا، إذن فلا ضير أبداً من أن تقضي تركيا "خمسة أشهر في حب روسيا"، وأن تلعب لعبتها الرابحة حتى نهاية الانتخابات الرئاسية الأميركية وتولي رئيس جديد زمام الحكم في أميركا، ولا ضير أيضاً من مغازلة روسيا والتقرب إليها للاستطلاع عن كثب على حجم المكاسب والأرباح التي قد تجنيها تركيا من هذا التقارب، وسط شهيق نيران أوروبا وزفيرها الملتهبين.
إذن فقد ضرب أردوغان ضربته التي لن تخيب أبداً في وقتها وساعتها المناسبتين جداً، فلو اعتبرنا بأن التوجه نحو روسيا ما هو إلا "مناورة أردوغانية" الدافع من ورائها هو إذلال الغرب الأميركي والأوروبي ونكايته؛ من أجل إجباره على تغيير مواقفه تجاه تركيا والاستجابة إلى طلباتها، يكون بهذا قد أصاب هدفه بأن أثبت لأوروبا بأن تركيا قادرة على تغيير السياسة الدولية والإضرار بالمصالح أوروبية، وفي الوقت نفسه يكون قد حيد تركيا وجعلها في مأمن من أي حماقة أوروبية مسيئة لمدة خمسة أشهر قادمة، ذلك لأن أوروبا لا تستطيع القيام منفردة بأي تحرك سياسي بلا غطاء أميركي أو وجود؛ بينما أميركا تحتاج إلى الخمسة أشهر تلك "على الأقل" حتى تقدم على أي تصرف سياسي جديد، أما إذا كانت "المقاصد الأردوغانية" هي إحداث تقارب حقيقي مع روسيا، فستكون مدة الخمسة أشهر كافية جداً لفتح أسواق اقتصادية وأبرام صفقات تجارية ضخمة، ستعود على بلاده بالخير الوفير دون خوف من فشلها تحت أي ضغط غربي، ثم تكون له الفرصة سانحة لإقامة علاقات جديدة مع الإدارة الأميركية الجديدة، وقد أصبح في مكانة سياسية واقتصادية أقوى بكثير على ما هو عليها الآن، لذى فقد نجح أردوغان بإصابة مئة ألف عصفور بضربة حجر واحدة.
مما لا شك فيه، بأن أردوغان الذي بات "متأرجحاً" بين المعسكرين الغربي والروسي؛ لم يحسم أمره نهائياً بعد؛ ولن يحسم أمره حتى يجمع في يده جميع خيوط المرحلة القادمة، فهو لم يتلقَّ العرض الأوروبي بعد، والذي قد يغير مساره نحو اتجاه آخر؛ ولم تتحد له اتجاهات الرئيس الأميركي الجديد وسياسته؛ ولم تكتمل صورة وشكل الاتفاق النهائي الذي يعقده مع الروس، كما أنه ليس بـ"مغيب" عن التبعات "السيئة جداً" التي قد تصيب تركيا في حال انضمامه للمعسكر الروسي "جدياً"، كل هذه أمور لم تتأكد بعد بوضوح أمام الرئيس التركي، لكن المؤكد بأن أردوغان قد اختار المواجهة والصدام مع الغرب الأوروبي والأميركي، وأقدم فعلياً على توجيه "صفعة" من العيار الثقيل على وجه كل منهما، فإما أن تصيب فيظفر بما أراد وأكثر، وأما أن تخيب فترتد صفعته على وجهه لا وجه غيره.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.