أوحت المحاولة الانقلابية، التي قامت بها بعض قطعات الجيش، بأن تركيا لا تزال بعيدة عن أوروبا، لكن رد فعل النخبة السياسية والمؤسسات السيادية والقضائية وأغلبية الشعب التركي أوحى بأن تركيا تبتعد أيضاً عن الشرق الأوسط.
وتركيا التي لطالما اعتبرناها بلداً أجنبياً، تحولت في العقدين الأخيرين إلى جارة قريبة إلينا، حدث ذلك سريعاً، فمع بروز حركات الإسلام السياسي وأحزابه، بعد سنوات من التحول البطيء والمتعثر إلى الحكم المدني، أيام تانسو تشيلر وتورغوت أوزال ومسعود يلماظ، في التسعينات، أخذت تركيا تلتفت إلى محيطها الآسيوي والعربي والإسلامي.
كانت فترة نجم الدين أربكان القصيرة مصدر حيرة لنا: هل ارتكست تركيا عن العلمانية وإرث الأتاتوركية وطموح أوروبا والحداثة لتكون على صورة إيران الخمينية؟ أم أن تركيا تجترح إسلاماً سياسياً مختلفاً، يتواءم مع الديمقراطية والغربنة وعلمانية الدولة؟ ثم لماذا عاد الإسلام "الاجتماعي" إلى مشهد الحياة العامة، بعد عقود مديدة من العلمنة الممنهجة والقسرية أحياناً؟ وهل هذا الإسلام التركي (كهوية) قادر على تجاوز معضلة الثنائية القومية: الكرد والترك؟
وجدنا في حيرتنا واهتمامنا بالوجهة التي ستذهب إليها تركيا حاجتنا إلى "نموذج" نعاينه أو حتى نهتدي به في مقاربة مسائل بلادنا ومجتمعاتنا، التي تعاني بدورها من سؤال الديمقراطية والإسلام والعلمانية وآليات إنتاج السلطة وتداولها وصلاتنا بالعالم والغرب والمعاصرة.
هكذا، وطمعاً بجواب غير إيراني، باتت تركيا حاضرة في يومياتنا.
في التسعينات، على ما أذكر، بدأ أول "غزو" تركي: فاضت أسواقنا بالثياب المصنوعة في تركيا، صناعة تنسخ الموضة الغربية، وتبيع بأسعار متهاودة، خصوصاً منها الصناعات الجلدية والإكسسوارات، وبين الرديء الآسيوي الشديد الرخص والممتاز الأوروبي الباهظ الثمن، وجدنا ضالتنا في المنتج التركي المتقن والرخيص، تلاها غزو أنواع الشوكولا والسكاكر والفاكهة المجففة، ثم بدأت تصل إلينا السيارات الفرنسية التي يتم تجميعها في تركيا، تلك "الغزوات" المتلاحقة واكبتها بداية الأفواج السياحية الكبيرة إلى الديار التركية وربوعها.
التلفزيونات التي روَّجت للمسلسلات المكسيكية المدبلجة، سرعان ما اهتدت للدراما التركية بدبلجة سورية، بوصفها مسلسلات تقارب "هموماً" اجتماعية مشابهة لهمومنا، الشخصيات والأخلاقيات والنزاعات، المدنية منها والريفية، تكاد تكون طِبق الأصل لما نعايشه عندنا، كان مشاهدونا يرون "عذابات الحب" التلفزيونية التركية أقرب إليهم من تلك المكسيكية والفنزويلية.
ثم إننا اكتشفنا، بعد انقطاع طويل، منذ انفكاكنا عن السلطنة العثمانية، وإدارة تركيا ظهرها لنا لعشرات السنين، كم أن الحدود التركية قريبة، نصعد بالـ"بولمان" ونتجه شمالاً على طول الخط الساحلي، نجتاز الساحل السوري القصير ونكون مساء في أنطاكيا، بلاد شبيهة ببلادنا، لكن يغلفها تنظيم أوروبي يجعلها أجمل، المائدة هي ذاتها تقريباً، أيضاً، عاداتنا وسلوكياتنا وعاداتهم وسلوكياتهم تبدو من "تربية" واحدة.
صحفنا التي كانت تنشر ترجمة لمقالات إسرائيلية وإيرانية (عدا طبعاً الفرنسية والإنجليزية) باتت تنشر مقالات مترجمة عن التركية، لا بل إن الصحف الأساسية صارت تعيّن مراسلين دائمين لها في إسطنبول وأنقرة.
وعلى الرغم من أننا كنا نعرف الشاعر ناظم حكمت، والروائي يشار كمال، بفضل الدعاية الثقافية الشيوعية، أو القاص عزيز نسين، بفضل شغف السوريين به خصوصاً، فإن تلك المعرفة كانت شحيحة قبل التسعينات، حين صرنا نلاحق نتاج نديم غورسيل ولطيفة تاكين وأورهان باموق وأليف شافاق وصباح الدين علي وأحمد أوميت وتحسين يوغل.. وغيرهم. انكبت دور النشر اللبنانية والسورية على تلقف الأدب التركي وترجمته، وصرنا نحن القراء أكثر "معرفة" بتركيا المجهولة، المعاصرة، انتبهنا كيف أننا سهونا عن جارة كبيرة كل هذا الوقت.
تركيا نفسها أقبلت صوبنا، في السياسة والتجارة والعلاقات الدبلوماسية والزيارات الرئاسية والوزارية، حتى إننا شاهدنا أردوغان في أرياف عكار، شمال لبنان، حيث اكتشفنا معه أن ثمة "تركمان" لبنانيين ولديهم قراهم.
بتنا يومياً نعتمد مثلاً على السمك التركي الطازج، كما لو أن إسكندرون هي مرفأ صيدنا، أعداد كبيرة من عرساننا أصبحوا يقضون شهر العسل في تركيا، بل إن أصحاباً كثراً صاروا يفضلون إقامة العرس أصلاً في إسطنبول: عرس أفخم بكلفة أقل.
كان اللبنانيون يشعرون أن المدينة الأجنبية القريبة هي باريس مثلاً، لكن في الـ15 سنة الأخيرة، استبدلوا إسطنبول بها، لا فيزا ولا معاملات "شينغين" منهكة، هكذا، في سنوات قليلة، ألفنا تلك المدينة وألفتنا هي بدورها.
في زيارتي الأولى لإسطنبول عام 2004، كان شبه مستحيل أن تجد متجراً أو فندقاً أو مطعماً به موظف يتحدث العربية. بعد سنتين أو ثلاث، تتجول في المدينة وترى على واجهات المتاجر والمطاعم لافتات: "نتحدث العربية"، العرب الخليجيون وجدوا ضالتهم في تركيا عوضاً عن مدن أوروبا، فتدفقوا إليها سياحة وإقامة واستثماراً واصطيافاً وعطلاً، وفي الوقت ذاته، فتحت تركيا حدودها مع سوريا لحرية الحركة، فانتعشت تلك الشرايين القديمة التي كانت تربط البلدين وتدفقت فيها حياة نابضة وحيوية، أيقظت حلب وغازي عنتاب وماردين وأورفة من سبات استمر منذ القطيعة مع الزمن العثماني.
في تلك الزيارة الأولى، قضينا محمد أبي سمرا وأنا وقتنا ونحن ندبّر ذهولنا بها، البازار الكبير، الحدائق البديعة، الجمال الفائق للمساجد الإمبراطورية، التنظيم الأوروبي للطرق والعمارة والفضاء العام، التاريخ الحي والمستمر في نسخ الوجوه والمحلات والشرفات والأرصفة والمباني والأسواق والساحات العامة وآثار القسطنطينية، والقصور العثمانية الهائلة الاتساع، وزواريب البيوت الخشبية العتيقة والمسير الخرافي في شارع الاستقلال، والوقوف على التلال المشرفة على الدردنيل، أو الجلوس في مطاعم البوسفور ليلاً، وتناغم أصوات الجاز الطالعة من الحانات مع موسيقى الشجن التركي القديم، وباعة الكعك، وسوق السمك، وبازارات العطور والبهارات والسجاد والذهب والفضة والنحاس وخيرات آسيا والقوقاز.
وملايين السياح الذين أتوا من نيوزيلندا أو روسيا أو جنوب إفريقيا أو شمال أوروبا أو من قلب آسيا أو من كندا والولايات المتحدة. مدينة العالم في أوج التقاءاته الساحرة، شرقية إلى أقصى حد، أوروبية بلا نقصان، آسيوية بيزنطية إسلامية، عاصمة إمبراطورية منذ القرن الثالث ميلادي، غربية كوزموبوليتية حتى الثمالة.
في العام 2013، كنت أستكشف إسطنبول، في زيارتي الرابعة لها خلال عشر سنوات، ملاحقاً سرعة التحول والتبدل، أو بالأحرى التوسع الذي لا يتوقف، والأعمال الكبرى التي تغير من ملامح المدينة وبنيتها، والإضافات المستمرة في كل أنحائها، التي تجعل نموها قياسياً وباهراً.
أذكر لقائي بالفتاة الإسطنبولية، اليسارية المتوثبة، التي شاركت في احتجاجات حديقة غيزي وتظاهرات ساحة تقسيم، كانت تقول بلغة عربية واضحة: "كانت معركتنا ليست لإسقاط النظام كما يحلو لبعض العرب أن يظنوا، بل من أجل أن نحافظ على طابع إسطنبول، وعلى وجودنا، وعلى حصانة الحريات، وعلى شراكتنا في صياغة تركيا الجديدة، وعلى وضع حد لجموح تحالف السلطة والمال.. لكننا فخورون بنجاحات مشاريع التحديث، وبكل هذا الازدهار الاقتصادي ونمو الثروة الوطنية.. نضالنا هو لتوسيع دائرة المستفيدين من البحبوحة، ولتحقيق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية".
كانت حينها مبتهجة وهي تفسر لنا أهمية القرارات التي اتخذتها الحكومة في اليوم نفسه، كتعليم اللغة الكردية في المدارس الخاصة، والسماح بارتداء الحجاب في الدوائر الحكومية، عدا الشرطة والجيش والقضاء، كذلك إلغاء إلزامية ترديد النشيد الوطني في المدارس الابتدائية، كما رزمة الإصلاحات في النظام الانتخابي، وقانون الأحزاب، معتقدة أن تركيا الأتاتوركية تتأقلم مع تركيا التعددية، وتركيا العلمانية تستوعب وتتصالح مع تركيا الإسلامية، وتركيا القومية تتقدم إلى تركيا الديمقراطية الليبرالية.
يحدث هذا، فيما كانت الدعايات السياسية المنتشرة على امتداد إسطنبول تنحصر بخطط التوسعة الكبرى لشبكة المترو، والمتروباص، والترامواي، وشبكة الطرق والجسور والمرافئ، والخطة الطموحة لبناء أكبر مطار في العالم، تكون قدرته الاستيعابية نحو 150 مليون مسافر في السنة. ونحن المتنقلون على امتداد عشرات الكيلومترات بين أطراف إسطنبول ومراكزها، كنا نشهد مدناً كاملة، بالمعنى الحرفي للكلمة، تُبنى أو هي باتت منجزة لتكون ضواحي جديدة تستوعب ملايين السكان الجدد، أو بالأحرى تستوعب ملايين الفقراء سابقاً، والذين التحقوا في زمن قياسي، إعجازي، بالطبقة الوسطى.
ليس الاقتصاد وحده، ولا الفورة العمرانية الهائلة، ولا التطوير السياسي فقط، لكن ما يصنع ويدل على مسار التحول الاجتماعي، وعلى "نجاح" الدولة، وعلى "الانسجام" الوطني، وتضامن السكان وتواطئهم على هوية يؤلفونها للتو، نرى إشاراته، في إسطنبول، في الحياة اليومية التي تبرز فيها حظوة المؤسسات المدنية، وتنشأ على أساسها "عصبيات" جديدة، عصبية للمدينة، تبتكر رموزها وتنظم إيقاعها وتؤثر في مزاجها، كمثل تكاثر الجامعات وانتشارها حيث تظهر قوة الشباب، وتتطور فيها الكفاءات البشرية المستقبلية، أو كمثل سطوة أندية كرة القدم وحضورها الطاغي على التفاصيل اليومية وارتقاء مستواها دولياً، وخصوصاً في تنافسها الأوروبي.
في عقد واحد تضاعفت القدرة الشرائية لعموم المواطنين الأتراك، وغادر الملايين منهم الفقر، إلى الأبد. فيما الضواحي المشيدة التي نرى مواصفاتها كأنها امتياز للأغنياء، للقلة في بلادنا، ها هي مخصصة للغالبية العظمى من الأتراك.
أذكر أيضاً كآبتي من مشهد مطار رفيق الحريري الدولي، شبه الخالي والمقفر، وأنا أجد نفسي في مطار أتاتورك الدولي الذي يفور بمئات الألوف في كل دقيقة، طوفان البشر: التتر، الروس، السعوديون، الصينيون، اللبنانيون، البلغار، الإنجليز، الأفارقة، الفيليبينيون، السويديون، الماليزيون، الكوريون، الأفغان، جنسيات لا تحصى، مخفوقون معاً، مختلطون معاً في القاعات المزدحمة والممرات الطويلة التي لا تنتهي وتحت الشاشات الكثيرة التي تبث أسماء مدن العالم بأحرف مختصرة وأرقام مواقيت متسارعة في فضاء مكبرات صوت، تبث بلغات عدة نداءات الذهاب إلى طائرات وإعلانات وصول طائرات. بشر بكومبيوترات محمولة وهواتف نقالة وسماعات "آي.بوت" وحقائب يد وحقائب عمل وحقائب ثياب وكتب تحت الإبط، وساندويتشات تؤكل على عجل، وكاميرات مراقبة ورجال أمن صريحون ورجال أمن متخفون.
يمكن أيضاً التفرج على ثياب المسافرين أو ربما يمكن التصور أننا في متحف الأزياء البشرية: فلاحو الأناضول والكرد، سيدات مدن موسكو وباريس، رجال الخليج العربي، نساء آسيا الوسطى، الشبان الألمان، الفتيات الهنديات، مراهقو أميركا، طلاب جامعات العالم، حجاج كل الأديان.. معاً في حركة منضبطة على إيقاع السرعة أو إيقاع الانتظار للذهاب والإياب حول الكرة الأرضية على مدار 24 ساعة، كل يوم وبلا توقف.
في السنوات الأخيرة، ساورتنا الشكوك في نموذج تركيا مع انتكاسة القضية الكردية، والعودة إلى العنف، والتراجع عن تلك التسوية العادلة والعقلانية، ساورتنا الشكوك في قوة الخيار الديمقراطي، مع الجموح نحو شخصانية السلطة، ساورتنا الشكوك كثيراً من عدوى "عربية" تصيب قلب تركيا فتمرض الدولة ويتمزق المجتمع، لكن تجربة الانقلاب الفاشلة، بقدر ما كانت امتحاناً عسيراً للسلطة المدنية وللمسار الديمقراطي، وكانت محنة مريرة لوجدان الجيش و"ذاكرته"، كانت في المحصلة انتصاراً للمواطنية التركية الواعية، وهذا ما لم تنجح فيه لا سلطاتنا العربية ولا جيوشنا ولا مواطنونا، يبدو حتى الآن، أن الانقلابات المسلحة (والميليشياوية خصوصاً) هي وحدها التي تنجح عندنا.
الفارق نجده أصلاً في الأدب التركي نفسه، ففي ما قرأناه بأزمان سابقة ليشار كمال وناظم حكمت وعزيز نيسين، وما نقرأه حديثاً لنديم غورسال وأورهان باموق وأليف شفاق ولطيفة تكين، نستشعر ذاك الانتقال من عصر "الجمهورية الأتاتوركية" ومعضلاتها، خصوصاً معاناة الريف ومجتمع الكدح والفقر، إلى عصر تركيا الحديثة وصراحتها في "مراجعة" التاريخ من جهة، وفي تفاؤلها المدني، وهواجسها الاستهلاكية، وبروز أسئلة الفرد.. بل وولادة "الفرد".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.