الكاميرا التي أفشلت الانقلاب

غياب الصورة سهّل وقوع وإخفاء مجزرة كبرى ارتكبها الشقيقان حافظ ورفعت الأسد في حماة عام 1982 راح ضحيتها أربعون ألف إنسان، وبوجود الكاميرا تحولت قضية قتل الطفل الفلسطيني محمد الدرة إلى إدانة دولية لإسرائيل شغلتها لعدة أشهر في محاولة تبريرها ودفع التهمة عنها، وبكاميرا الموبايل استطاع السوريون أن يعرّفوا العالم على ثورتهم ويعرضوا أمامه مجازر نظامهم الذي منع أية وسيلة إعلامية من تغطية ما يحدث في سوريا، ودائماً كانت الكاميرا وصورتها هي صديقة للحرية والشفافية وعدوة للاستبداد والطغاة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/18 الساعة 02:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/18 الساعة 02:40 بتوقيت غرينتش

تخيّل معي لو أن الانقلاب العسكري الفاشل الذي حدث في تركيا قبل أيام، وقع بتسلسل أحداثه وبكامل تفاصيله مع تغيير في زمن حدوثه فقط، بحيث إنه تم في ستينات القرن الماضي، وباختلاف وحيد يفرضه الزمن؛ حيث كان الراديو هو الوسيلة الإعلامية الشعبية المتوافرة في الستينات أمام قادة الانقلاب لقراءة البيان رقم واحد، وهو الوسيلة الشعبية المتاحة أمام الرئيس أردوغان لتوجيه ندائه للشعب التركي بالنزول إلى الشوارع، واسأل نفسك: هل كان الانقلاب سيفشل كما حدث قبل أيام؟

سأنتظر منك أن تستغرب سؤالي، وتقول لي: نعم سيفشل ما دام الشعب التركي بمواليه ومعارضيه نزلوا موحدين إلى الشوارع ليدافعوا عن الجمهورية التركية، وعن مكتسباتهم الديمقراطية، وعن أصواتهم التي أدلوا بها في صناديق الاقتراع، وهو السبب الأول والرئيسي لفشل الانقلاب، وسأهز رأسي موافقاً وأسألك ما إذا كانت هناك أسباب أخرى؟

وستحك رأسك وتقول لا تنس كارزمية رجب طيب أردوغان الطاغية وشعبية حزب العدالة والتنمية الذي أنشأه وقاده وأوصله إلى السلطة، وفاز في آخر انتخابات ديمقراطية بالأغلبية المطلقة بنسبة 52 بالمائة من أصوات المقترعين، وستضيف أن أردوغان غيّر في واقع تركيا وأخرجها من دولة متخلفة مديونة إلى دولة بدون ديون، وجعل اقتصادها واحداً من عشرين اقتصاداً عالمياً، ورفع دخل الفرد، وأنشأ صناعة، وبنى بنية تحية، وأقام مشاريع جسورة، مما خلق له جمهوراً يدافع عنه من خارج اتجاهه السياسي استفاد من إنجازاته الاقتصادية ورفع مسستوى معيشة الفرد في تركيا، وهذا سبب إضافي وهام كي يفشل الانقلاب، ومرة أخرى سأهز رأسي موافقاً معك وأسألك مرة أخرى عن أسباب إضافية؟

وستتذكر مباشرة موقف الأحزاب المعارضة التي تخلت عن أنانيتها وتصرفت بحكمة، وأعلنت وقوفها ضد الانقلاب العسكري وانحيازها للديمقراطية رغم خصومتها السياسية مع حزب العدالة والتنمية الحاكم وسياساته وتوجهاته، ولكنها فضلته على العودة إلى تجارب حكم العسكر المريرة التي عاشها الشعب التركي بجميع أحزابه ومختلف فئاته، وعلى أي تحالفات قد يعرضها عليها حكم العسكر فيما لو نجح انقلابه، وهذا ما أحدث فرقاً وساهم بشكل كبير في فشل الانقلاب، وسأتحمس لحماسك لهذا السبب بالذات، ولكني سأسألك ما إذا كانت هناك أسباب مهمة تحب أن تضيفها؟

ولو صمتّ ولم تعثر على أسباب أخرى أو عثرت وسردتها، سأنتقل إلى سؤالي الجوهري الثاني وهو: هل كان الأتراك سينزلون إلى الشوارع لحماية الشرعية وردع الانقلاب لو لم يروا أردوغان وهو يطلب منهم النزول إلى الشوارع عبر تطبيق سكايب في تليفون مقدمي برامج في محطة تلفزيونية؟ وهل كانوا لينزلوا إلى الشوارع لو سمعوا ذلك في الراديو في ستينات القرن الماضي نفس نداء أردوغان؟

أنا غير أكيد من أنك ستقول نعم، فلو بث أردوغان نداءه إلى الأتراك عبر الراديو لينزلوا لمواجهة الانقلاب، في جو من الخوف والغموض، حيث صورة الخارج بالنسبة لهؤلاء الموجودين في بيوتهم عمياء وكاملة السواد، كنت ستسمع من سيشكك ويقول قد يكون الصوت مزوراً، وإنها قد تكون لعبة، وإن هناك من يريد أن يورطنا، وخاصة أن الدبابات في الشوارع يُمكن مشاهدتها من نوافذ المنازل، والطائرات في السماء يمكن لمحها بإزاحة طفيفة للستائر، وأصوات الانفجارات تصل إلى البيوت.

لكن ظهور أردوغان وخطابه من شاشة التليفون الصغيرة أحدث الفرق، فاطمئنان الأتراك لوجوده وتأكيده على أنه الرئيس الشرعي الذي ما زال على رأس عمله، واستثارته بالصوت والصورة الشعب التركي كي ينزل إلى الشوارع للدفاع عن الديمقراطية مع كل الأسباب التي سردتها سابقاً، فضلاً عن تاريخ من الصور كانت الكاميرا قد نقلتها إلى الأتراك عبر عقود في بيوتهم لمظاهرات الشعوب ضد الطغاة بدءاً من لحظة تحطيم جدار برلين وانهيار دول معسكر الاعتقال الشيوعي في أوروبا الشرقية، وصولاً إلى آخر مظاهرات ثورات الربيع العربي، جعلتهم يفكرون بأن تحركهم قد يغيّر في الأحداث، هي عامل أساسي وجوهري في فشل الانقلاب العسكري في تركيا.

أنا تابعت مثلي مثل كثيرين على بعد آلاف الكيلومترات عبر الكاميرا نفسها (التي ساهمت بشكل رئيسي أيضاً في فشل الانقلاب العسكري في تركيا) كل تفاصيل ليلة الانقلاب، فشاهدت الحركة القلقة للناس في شوارع المدن التركية التي سادت بعد نزول دبابات وجنود الانقلابيين إلى الشوارع وتحليق طائراتهم فوقها، وكان الأتراك يتجهون في سياراتهم إلى منازلهم في الوقت الذي بدأت فيه الشوارع والساحات تخلو من المشاة، وجو الخوف والقلق يسود وينتشر، وسمعت وقرأت عن مواطنين أتراك بدأوا يستعدون لأيام الانقلاب القادمة بشراء مونة المدة التي سيختبئون فيها، وكانت كل الأمور سائرة باتجاه نجاح الانقلاب، إلى أن ظهر أردوغان على تلك الشاشة الصغيرة للموبايل، فكسر جو الخوف والرهبة والتردد والاستسلام للانقلاب والحيرة عما بإمكانهم عملهم، وما إذا كانوا قادرين على فعل شيء.

وبعد أن قال ما قاله، وأرشدهم إلى ما بإمكانهم فعله وما كان أمامهم وفي متناول أيديهم، لكنهم لم يستطيعوا رؤيته أو اتخاذ قرار بسلكه في تلك الفترة العصيبة، نزلت الناس بالآلاف مصطحبة عوائلها إلى الشوارع، ومدفوعة كُل بأسبابه للدفاع عن الديمقراطية أو عن مكتسباته منها أو عن زعيمه الذي جاء عبرها، وهذا ما كان من المشكوك به أن يحدث في ظل الراديو، وإن حدث فسيكون بشكل محدود لا يستطيع أن يوقف انقلاباً، فضلاً عن أنه بغياب الصورة كان يمكن للانقلابيين أن يحدثوا مجازر ضد من سيعترض طريقهم أو يرغب في إفشال انقلابهم، من دون أن يسمع بها أحد، فإن سمع فبعد أيام وبدون أدلة تثير ضجة أو تُحدث أثراً.

غياب الصورة سهّل وقوع وإخفاء مجزرة كبرى ارتكبها الشقيقان حافظ ورفعت الأسد في حماة عام 1982 راح ضحيتها أربعون ألف إنسان، وبوجود الكاميرا تحولت قضية قتل الطفل الفلسطيني محمد الدرة إلى إدانة دولية لإسرائيل شغلتها لعدة أشهر في محاولة تبريرها ودفع التهمة عنها، وبكاميرا الموبايل استطاع السوريون أن يعرّفوا العالم على ثورتهم ويعرضوا أمامه مجازر نظامهم الذي منع أية وسيلة إعلامية من تغطية ما يحدث في سوريا، ودائماً كانت الكاميرا وصورتها هي صديقة للحرية والشفافية وعدوة للاستبداد والطغاة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد