1- أنواع الثورات: عقلانية وعاطفية
عرف العالم نوعين من الثورات، الثورات العاطفية "الرومانسية"، والثورات "العقلانية".
الشكل الرومانسي مختلف تماما عن الشكل العقلاني، فهو يضيق ذرعا بكل ما يمت للعقل بصلة، ويميل إلى تأكيد "الإرادة" على حساب "العقل"، مما يجعله يمجد العنف في بعض الأنواع، ويميل إلى التحالف مع النزعات القومية القائمة على العاطفة. (هتلر، موسيليني).
على العكس من ذلك، فإن الشكل "العقلاني" يحتكم إلى الاستنتاج أو المنطق كمصدر للمعرفة أو للتفسير. نرى ذلك في فلاسفة الثورة الفرنسية -قبل انقلاب نابليون- الذين تحدثوا عن فساد السلطة، والفصل بين السلطات، وكذلك الفلاسفة الإنجليز الذي خاضوا الثورة الإنجليزية مختلفين حول طريقة الحكم في إنجلترا وأسكتلندا وأيرلندا، وليس فقط من يحكم.
ثم أخذت هذه الأفكار شكلا أكثر عمقا -أو تطرفا- عند ماركس الذي أراد أن يفسر كل الصراعات في التاريخ بالصراع بين الطبقات، وأراد أن يقسم "بالعقل" كل الموارد على جميع المواطنين، حتى يقضي تماما، بشيوعها، على "عواطف" الغيرة والحسد.
2- الثورة المصرية عقلانية لدرجة الغيظ!
من هذا المنطلق يمكننا أن نستنتج أن الثورة المصرية كانت من النوع الثاني، أي العقلاني.. صحيح أن عاطفة صادقة هي التي دفعت جموعا من الطبقات للتظاهر ضد مبارك، إلا أنها كانت عقلانية جدا في هذا التحرك، ضد كل ما هو غير عقلاني في عهد مبارك ولا سيما في السنوات الأخيرة.
فلم يكن من المعقول استمرار حالة الطوارئ لثلاثة عقود، ومن غير المنطقي تزوير الانتخابات البرلمانية بهذا الشكل الفج، ومن غير المنطقي احتكار عدد محدود من رجال الأعمال للسلطة والنفوذ والثروة، ومن غير المعقول استمرار حصار غزة، وتصدير الغاز للصهاينة! ومن غير المعقول تهيئة جمال مبارك للتوريث، ومن غير المعقول بقاء مبارك نفسه في الحكم ثلاثين سنة!
كان كل شيء في مصر غير عقلاني، وكانت منطلقات الثورة عقلانية، لذا كان تعاطي نظام مبارك مع ثورة الشباب العقلانية بعقلانية مماثلة غير مجدٍ، لأنه مهزوم في هذا الميدان! لذا لجأ إلى الخطاب العاطفي الشهير عن مصر التي خدمها ودافع عنها، وولد فيها ويريد أن يدفن فيها! ولا شك أن خطابه نجح في التأثير على قطاعات لم تتأثر كفاية بالمبررات العقلانية للثورة.
وبعد نجاح الثورة تعامل الثوار برومانسية شديدة، بدرجة أقرب إلى السذاجة، وتخلوا بعقلانيتهم عن الحالة الثورية إلى الحالة الدستورية، وهو من أول الأخطاء التي وقعت فيها الثورة!
3- تعاطي الثورة المضادة مع الثورة العقلانية في مصر
عقب نجاح الثورة كان الهدف الإستراتيجي للثورة المضادة هو تجريد الثورة من الحالة العقلانية التي كانت فيها، وإثارة العواطف فيها، مستغلين الروح العاطفية الوطنية التي تفجرت عقب تنحي مبارك، وذلك بالتالي:
إيقاف الحالة العقلانية بمخدرات عاطفية: عن طريق الادعاء أن الجيش حمى الثورة، وإعطاء الشهداء التحية العسكرية، لربط قواعد الثوار برأس الثورة المضادة بموقف عاطفي، لا عقلانية فيه، يجعلهم يتوقفون عن التفكير في ممارساته غير الثورية، بل التي تستهدف الثورة في الصميم.
وقد نبهنا في وقت مبكر من صيف 2011 أن أفعال المجلس العسكري لا تنم عن نيته في تسليم السلطة، لكن كان يُرد علينا في المقابل أن العسكر يريدون "خروجا آمنا"، وهو استنتاج غير عقلاني!
إثارة العاطفة الوطنية: بأن الجيش المصري آخر جيش باقٍ في المنطقة، وأن من يعارضه يريد "هدم
الدولة".
إثارة مشاعر التخوين: باللعب على فكرة "الإخوان سرقوا الثورة"، وعقدوا صفقات مع العسكر، وإجراء استفتاء يرضي الإسلاميين، وفي المقابل عقد لقاءات واجتماعات تطمئن العلمانيين، وتساندهم.
إثارة عاطفة التنافس: بدأ باستفتاء نعم ولا، ومر بالانتخابات البرلمانية، ووصل لذروته في الانتخابات الرئاسية، واستمر حتى الاستفتاء على دستور 2012. الانتخابات تقسم الناس.. هذه قاعدة.
إثارة عاطفة الغيرة والتحاسد: جراء فوز الإسلاميين بأكثرية المقاعد البرلمانية ثم بالرئاسة وإقرار الدستور.
إثارة عاطفة التطرف: وقد لعب طرفان مهمان دورا كبيرا في إثارة هذه العاطفة:
السلفيون.. الذين اندفعوا بقوة إلى الحلبة السياسية، مستخدمين شعارات الجنة والنار، والولاء والبراء، وعدم جواز ترشيح المرأة والقبطي، فضلا عن التحالف معهم.
الأقباط: الذين تحركوا بشكل علني تحت مسمى ديني"الأقباط" وليس مسمى سياسي، رافعين الصليب، كما حدث في ماسبيرو.
إثارة عاطفة الفردية والأنانية: بإثارة المطالب الفئوية.
4- حكم الرئيس مرسي امتداد للثورة العقلانية:
كان الرئيس مرسي كمن يقود طائرة مخطوفة، يريد أن يحررها من خاطفيها والتحكم في قيادتها، دون أن يؤدي الصراع بينه وبين خاطفي هذه الطائرة (الثورة المضادة) إلى انفجارها أو سقوطها في الهواء! كما يريد ألا يشعر بقية الركاب بأن الطائرة مخطوفة، فلم يخرج ويعلن على الملأ المعوقات التي يواجهها كما طالب البعض!
ولعل هذا التشبيه هو ما يفسر سلوك الرئيس مرسي تجاه مؤسسات الدولة العميقة التي كان حريصا على تطهيرها، دون هدمها، فلجأ إلى تغيير القيادات الفاسدة في كثير من المؤسسات الأمنية والاستخبارية، واستبدل بهم قيادات جديدة. وحيث إنه من المستحيل وضع قيادات من خارج هذه الأجهزة على رؤوسها، فلم يكن أمام الرئيس الجديد إلا انتقاء أقل العناصر سوءا من هذه الأجهزة.
لكن الأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة العميقة كانت عازمة على إفشال خطة الرئيس مرسي، ووضعته أمام خيارين؛ إما أن يترك لهم قيادة الطائرة، أو أن يفجروها وهو فيها!
كان حكم الرئيس مرسي امتدادا للثورة العقلانية التي تحتكم إلى المنطق وليس إلى العاطفة، وهذا ما يفسر كثيرا من القرارات التي اتخذها، والسياسة التي اتبعها، والشعارات التي رفعها: ننتج غذاءنا وسلاحنا ودواءنا.
5- الانقلاب المجنون:
كان عام مرسي في الحكم إذن امتدادا للثورة العقلانية، وكان مواجهة الدولة العميقة له بطريقة عقلانية غير مجد! فلجأوا إلى النوع الآخر من الثورات (الثورات العاطفية) وحاولوا استنساخ نموذج منها يناسب المؤسسة العسكرية التي تقود الثورة المضادة، تمثل في انقلاب 3 يوليو/تموز.
لم يكن انقلاب 3 يوليو وما تلاه "عقلانيا" بأي حال من الأحوال! فليس من العقلانية الوقوف بجانب الفلول الذين قامت عليهم الثورة في معسكر واحد في 30 يونيو/حزيران! وليس من العقلانية الانقلاب على أول رئيس مدني في عامه الأول، وتفويت فرصة التداول السلمي للسلطة. وليس من العقلانية الادعاء أن السيسي (بدبابته) إذا لم ينفذ ما اتفق عليه سنتظاهر ضده (!!) وليس من العقلانية حل برلمان منتخب وتعطيل العمل بدستور مستفتى عليه!
وليس من العقلانية طبعا بأي حال من الأحوال فتح الجيش النار على المعتصمين، والقيام بأكبر مجازر في تاريخ مصر في مجزرة رابعة وأخواتها! وليس من العقلانية انقلاب السيسي على وعوده بعدم الترشح للرئاسة ثم الترشح! وليس من العقلانية ابتلاع كم هائل من الأكاذيب التي لا يصدقها عقل طفل صغير؛ من جهاز الكفتة الذي يعالج الإيدز وفيروس سي، ثم قناة السويس الجديدة التي ليست إلا تفريعة جديدة، والمليون وحدة سكنية والمليون فدان والعاصمة الإدارية الجديدة!
وليس من العقلانية موافقة السيسي على تفريطه في منابع النيل وتنازله عن حق مصر في عدم بناء سدود في دول المنبع، أو التفريط في حقول الغاز في الشمال، أو التصويت لصالح إسرائيل!
لقد كان انقلابا عاطفيا لا يمت إلى العقلانية بصلة، أراد التأكيد على مفهوم السيادة على حساب العقل، وإعادة إحياء النزعة القومية، فخرجت تصريحات مبكرة عن أسر قائد الأسطول السادس، والتصدي للبوارج الأميركية قرب ساحل الإسكندرية، وتفريغ شحنة غيظ وغضب تجاه قطر وقناة الجزيرة ومراسلي الجزيرة (قضية خلية الماريوت) بل وميكروفون الجزيرة أيضا!
وفي مقابل الانقلاب العاطفي الذي كان يلوح في الأفق، وظهرت بوادره، لجأ الرئيس مرسي في خطابه الأخير قبل الانقلاب إلى خطاب عقلاني بحت، أخذ يركز فيها على العمود الرئيسي للثورة العقلانية وهو "الشرعية"، إلى الحد الذي دفع خصومه بعاطفة السخرية إلى الاستهزاء من ذلك!
ومن هنا يمكننا أن نفهم تمسك الرئيس مرسي والإخوان بالشرعية كاملة ورفض الانقلاب، فالتنازل عنها هو تنازل عن "عقلانية الثورة"، وعن "الثورة العقلانية"! رغم معرفتهم بعواقب ذلك، وتعرضهم لتضحيات كثيرة لثنيهم عن ذلك!
ختام
علينا أن ندرك أن الرئيس مرسي فور عودته إن شاء الله لم يعد يقود طائرة مخطوفة، بل الطائرة الآن في هبوط اضطراري "ترانزيت"، وأن المسموح به في الترانزيت أكثر من المسموح في الجو، وأن عليه الاستعانة ببعض القرارات المهمة والخطيرة قبل أن تقلع الطائرة مجددا!
وعلينا جميعا أن ندرك أن عقلانية الثورة لا تعني بالضرورة انبطاحها أو ضعفها، فالثورة الفرنسية توصف من نواح كثيرة بأنها عقلانية رغم دمويتها.
إن قوة الثورة عين العقل فيها، بل إن غير العقلاني ترك الثوار فريسة سهلة لخصومهم! يجب ألا تمنعنا عقلانية الثورة من التعامل مع خصومنا بما يستحقونه، بقوة وسرعة، دون تردد أو تخوف من الأزمات الاقتصادية، مدركين أن التساهل مع خصوم الثورة أحد أعظم أخطائنا في السابق، وأحد أكبر تهديداتنا في المستقبل!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.