من وين انت؟!

سأختار في سوريا مستقبلاً إن انتهت هذه الحرب المجنونة، أن تتعرف الطوائف والديانات على بعضها أكثر، أن تراجع قناعاتها وتصحح الخاطئ منها عن الآخر، لا أن يضحك مشايخ وأئمة على أنفسهم ثم علينا، وتتصافح أياديهم على شاشات التلفزيون وقلوبهم كافرة "كما يعرّفها الدكتور محمد شحرور".

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/24 الساعة 04:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/24 الساعة 04:06 بتوقيت غرينتش

عندما يسألني أحد الأشخاص هذا السؤال، أي "من وين انت؟"، أقف حائراً؛ إذ تقسّمت سنوات حياتي داخل سوريا حتى أصبح في كل جزء تقريباً لي مكان، ولدت وعشت في دمشق، ولي عائلة كبيرة في مدينة مصياف بريف حماة، وتمتد جذور عائلتي إلى مدينة سلمية، وعندما تزوّجت أصبح للقلب مكان في حلب، ثم تقسّمت حياتي حتى خارج سوريا.

في سوريا، السؤال عن أصولك ليس بريئاً دائماً، يسأل البعض عن مكانك بالتحديد ليعرف من أي طائفة أنت؟ ما الدين الذي تتبع؟ وماذا يعبد أهلك وأقاربك عندما يكونون لوحدهم؟ وما هي طقوسهم؟

في عمر صغير سُئلت عن طائفتي، لم أكن أعرف الإجابة بالتحديد، كانت المرّة الأولى التي أعرف بها أن هنالك طوائف، كنت صغيراً حتى لأعرف ما هو الدين، هو في الحقيقة سؤال "من أين أنت؟ّ" ما أوصل للطائفة.

سألت أمي وأبي عما تكون طائفتي، أجابا بكل ثقة: "أنت مسلم فقط"، لكن لم تكن تكتنف هذه الثقة الأشخاص ذاتهم الذين سألوا عن طائفتي، عندما قلت لهم فقط: "أنا مسلم".

بدت عيونهم باحثة تقول: "يجب أن يكون هنالك لاحقة ما – مسلم سُني، علوي، شيعي.."، وكأن المسلم لم يصل إلى مرحلة الدين بمجرد هذه التسمية.

عرفت لاحقاً أن مدينة مصياف؛ حيث العائلة الأم، ذات أغلبية إسماعيلية، ولم يصدف أن تعمّقت كثيراً بمعنى هذه الطائفة، أو مفاهيمها، واكتفيت بالبحث عنها لاحقاً في كتب اشتريتها بدمشق وعبر الإنترنت.

لم ينتهِ السؤال، والعيون المشككة، في المدرسة، وحتى في الجامعة، الجميع يرغب في معرفة "من وين انت؟"، ثم يضعك تلقائياً في خانة الديانة أو الطائفة التي تم تصنيفها له من عائلته ومحيطه.

ثم تتكتل الطوائف داخل الجامعة، تتلاحم وتتعاضد، بدل أن تنفتح وتتلاقح، الجميع لديه موقف من طائفة الآخر، وبالتالي من الآخر ذاته، إلا قلّة قليلة اختارت أن تنسى هذا الموضوع عن بكرة أبيه.

وينتهي الحال إلى نقاشات حادّة في العمل، ترافقها اتهامات من وحي صراعات المنطقة بأن كل طائفة هي السبب بما يجري.

ثمة من زرع عشرات القناعات الخاطئة عن الطوائف، بعضها عن طوائف مفتونة بـ"البقرة" أو عن حفلات خاصة لطوائف معينة وطقوس غريبة غامضة لطوائف أخرى، ثمة من لديه خيال خصب شيطاني؛ ليستخف بعقول الناس ويقنعهم بأن طائفة ما تعبد "فرج المرأة"، وبالتأكيد ثمة أناس جاهلون حتى يقتنعوا بأي شيء يروى عن أي طائفة أو دين.

تكفي "من وين انت؟"؛ لتجعل منك مواطن درجة ثانية بنظر الطائفة الأخرى، تستوجب معها الاستغفار والتوبة، على أن تبقى تصرفاتك تحت المراقبة.

صلاتك بخشوع أكبر، صيامك، قيامك، زكاتك وحجّك، أنت في موضع اختبار الثقة لأي طائفة لست منها، وستنتهي الثقة حتماً وتعود إلى مرتبة الكافر مع أول خطأ.

سأختار في سوريا مستقبلاً إن انتهت هذه الحرب المجنونة، أن تتعرف الطوائف والديانات على بعضها أكثر، أن تراجع قناعاتها وتصحح الخاطئ منها عن الآخر، لا أن يضحك مشايخ وأئمة على أنفسهم ثم علينا، وتتصافح أياديهم على شاشات التلفزيون وقلوبهم كافرة "كما يعرّفها الدكتور محمد شحرور".

سأختار أن أكون مسلماً من دون لاحقة يرضى عنها البعض والبعض الآخر لا يرضى، حينها حتماً سأعتبر سؤال "من وين انت؟!" بريئاً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد