يعدّ الطفل الثروة الخصبة لأي مجتمع، فالموهبة التي يمتلكها الطفل هي الطاقة الجوهرية والثروة الكبرى التي تستحسن، بل يجب استنباتها واستثمارها وتوجيهها والعناية بها، حيث إن تقدُّم المجتمعات مرهون بمدى الاستفادة من طاقاتها وقدراتها، وتوظيف عقولها الإبداعية والابتكارية بحيث تجد مكاناً لها في مواقع العطاء من التخطيط وصناعة القرار في مجالات الحياة المختلفة، ومن هذا المنطلق فإن تنمية القدرة المبدعة والابتكارية تصبح الهدف الأسمى لأي نظام تعليمي.
(1)
يعرف الإبداع بأنه: "العملية التي تؤدي إلى ابتكار أفكار جديدة، تكون مفيدة ومقبولة اجتماعياً عند التنفيذ"، أو كما قال الدكتور "علي الحمادي" في كتابه الأول من سلسلة الإبداع "هو مزيج من الخيال العلمي المرن، لتطوير فكرة قديمة، أو لإيجاد فكرة جديدة، مهما كانت الفكرة صغيرة، ينتج عنها إنتاج متميز غير مألوف، يمكن تطبيقه واستعماله".
ومن المؤكد أن لكل إنسان قدرات إبداعية حقيقية حتى ولو لم يكن مدركاً لوجودها، لكنه، ومع الأسف ينتهي الكثيرون من تعليمهم دون أن يدركوا مواطن قدراتهم الإبداعية الحقيقية، فالإبداع كما يقول "كين روبنسون" -أحد المتألقين والخبراء في مجال التعليم -"هو أعظم هبات الذكاء البشري، فكلما زاد العالم تعقيداً زادت حاجتنا إلى أن نكون أكثر إبداعاً لنتمكن من مواجهة تحدياته".
(2)
يبدأ الطفل بالتعلم في مرحلة مبكرة من حياته، ويعتمد في ذلك على عدة وسائل، منها المحاولة والخطأ، والممارسة والتكرار، والتقليد وغيرها.
ومن الوسائل المهمة لاكتساب المعرفة لدى الطفل (طرح الأسئلة)، فالطفل عادة يكون كثير الأسئلة، للتعرف على العالم المحيط به، فهو لا يمتلك مصادر لاكتساب المعرفة سوى سؤال الآخرين المحيطين به.
وتؤكد الدراسات الحديثة أن الطفل في مرحلة ما قبل الدراسة يطرح أسئلة بمعدل مائة سؤال في اليوم، لكنه في مرحلتي الابتدائية والمتوسطة يتناقص المعدل شيئاً فشيئاً، وفي لحظة ما وبفعل (التعليم التقليدي) يتوقف حماس الطفل لطرح السؤال والبحث والاستفسار، فالتعليم التقليدي يكافئ الطفل على إجابته على الأسئلة لا على طرحها، وغالباً ما تكون الإجابات المطلوبة وفقاً لنماذج صارمة، بل ويعاقب أحياناً على كثرة السؤال، وهكذا يسير التعليم في مجتمعاتنا بخطى ثابتة نحو الوراء؛ لأنه ببساطة يخلّف وراءه أزمة ثقة في قدرتنا على استكشاف الحياة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، الاهتمام بمناهج معينة ومحددة دون المناهج الأخرى، فمن الرائع أن المدرسة تُكسب الطفل العلوم في المجالات المختلفة، ما بين العلوم الطبيعية والإنسانية واللغات والفنون المختلفة، ولكن السيئ في الأمر هو كيفية النظرة إلى هذه المواد والتمييز بينها.
يقول "كين روبنسون": إن المناهج التعليمية تتخذ شكلاً هرمياً؛ حيث نجد العلوم واللغات في أعلى الهرم، بينما تتوسط العلوم الإنسانية هذا الهرم، وأخيراً تقبع الفنون بأنواعها أسفله، وهذا هو السبب الرئيسي وراء انسحاب الكثير من التعليم؛ إذ إنه لا يغذي أرواحهم ولا يغذي طاقاتهم وشغفهم، إضافة إلى ذلك فإن العديد من العباقرة والمبدعين عاشوا حياتهم معتقدين أنهم ليسوا جيدين بما فيه الكفاية لأن كل ما كانوا يبرعون فيه في المدرسة من مواد لم تكن تقدر؛ لذلك يبتعد الكثير عن مواهبهم الحقيقية منذ سنوات المدرسة الأولى.
ويقول روبنسون: إنّ الجهات التعليمية تعمل على توجيه الطلاب بما يتناسب مع نظرتها للأمور، كما تعاقب الطفل على فعلٍ ما باعتباره خاطئاً، فلا يجرؤ بمرور الوقت على الإقدام على أي فعل بعيد عن الخط المرسوم له، خوفاً من ارتكاب خطأ يعاقب عليه.
ويؤكّد روبنسون أنّه "إذا لم يكن الإنسان مستعداً للخطأ فإنّه لن يتمكن من الابتكار والإبداع، وبالتالي يفقد معظم الأطفال القدرة على الإبداع في مرحلة البلوغ؛ لأنّهم يخشون من الوقوع في الخطأ.
ويتهم روبنسون المناهج التعليمية حول العالم بافتقارها إلى المقوّمات الأساسية لدعم مهارات الطفل وتشجيعه، ويلفت إلى أنّ النظام التعليمي يعتمد على ركيزتين هما الوصول إلى وظيفة مستقبلية، والتخرج في الجامعة بعد أن باتت القدرات الأكاديمية بديلاً عن الذكاء، ويضيف أنّ "جميع الأنظمة التعليمية حول العالم تتّمتع بالهرمية نفسها في ترتيب أولوية المواد؛ لتحتل مادتا الرياضيات واللغة القمّة، ثمّ الإنسانيات، وفي قاع الهرم الفنون".
(3)
ومما سبق يتبادر لأذهاننا سؤال هام: هل النظام التعليمي يقتل الإبداع؟!
إن قمع السؤال هو قمع لعقل الإنسان، فضلاً عن أن التجاهل وعدم تقدير بعض المواد والمجالات التي يحبها الطالب ويبرع فيها هو قتل لروح الإبداع وسبب لتلاشي المواهب التي إن وُجدت وتم الاهتمام بها ورعايتها لأحدثت نقلة نوعية في طبيعة حياة ذلك المجتمع، فهذا يبرع بالرياضيات وآخر يبرع في الرسم، وآخر في الكيمياء، وآخر في الفنون الموسيقية وغيرها من المجالات الأخرى التي لا يجب أن نفرق بينها.
هذا النظام الخاطئ في المدارس غالباً ما يبعد الكثيرين عن مواهبهم الحقيقية، ويقتلعهم من المجال الملائم لهم ولعقولهم، كما أن المدرسة لا تعتبر مصدراً مناسباً لهم للمعرفة والمعلومات؛ حيث لا يحصلون على الاهتمام، كما لا يجدون التشجيع على البحث والنقد وطرح الأسئلة.
وقد قالت رئيسة الاتحاد الوطني للمدرسين (أكبر اتحاد للمدرسين في أوروبا) "روزاماند ماكنيل" في حوار لها مع "العربي الجديد": إنّ هناك عدداً متزايداً من المدرسين والأهالي الذين يعتبرون النظام التعليمي المدرسي جامداً ولا يتناسب مع تطوير مهارات الأطفال، بل يعمل على تثبيط وتنفير الكثير من التلاميذ، وأنّ هذا الأمر يزيد الضغط على المدرسين للتعامل مع الأطفال كأفراد، وأنّ الحكومة البريطانية تفرض على اتحاد المدرسين معايير تهدف إلى تحقيق أهداف خارجية، وهو ما أنتج بيئة تعليمية أضيق مساحة على التلاميذ، وكلّما ازدادت الأهداف المتوقّعة من المدارس تقلّص الإبداع داخل الصفوف.
نهاية، يمكننا الإجابة على السؤال، بأن المنهج الذي يُدرسه معلم ناقل للمعرفة، والاختبارات التي تقيس الحفظ فقط، والمؤسسة التعليمية التي تهدف إلى دراسة المقررات لذاتها، والوزارة التي تفرض شروحاً محددة لكل موضوع، لا يحيد الطالب بعيداً عنها، ولا يُزيد ولا يُنقص، ومعيارهم في التصحيح من يكتب كما في الكتاب يحصل على أعلى الدرجات، فذاك منهج يُنمي الفردية والأنانية، كما أن أسلوب التقييم يقتل فكرة "الجماعية"، وينمي التنافسية وليس التكاملية بين الطلاب، كما أن المقررات الدراسية لا تتيح الفرصة لتنمية مهارة التعرف على الآخر المختلف واحترامه، وهذا ما اجتمع عليه خبراء وباحثون في مجال التعليم، جميعها أسباب تعمل على قتل روح الإبداع عند الطلاب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.