في تسعينيات القرن الماضي قررت أميركا التخلص من "النظام البعثي" في العراق بعد أن أنهكته ثماني سنوات في الحرب مع إيران، وتلك كانت من أطول الحروب عمراً في المنطقة.
قطر غاز
لم يكن العراق وحده مَن يحارب، فالعراقيون كانوا يحاربون وكان مفروضاً على الخليج "الدعم المادي"، وكانت أميركا تزود بالمعلومات؛ لكي تستمر الحرب، وحتى لا يسمح لدولة عربية خارجة ولو بشكل غير معلن عن بيت الطاعة الأميركي أن تمتلك مقومات القوة.
توقفت الحرب في عام 1987، وبدأ العراق يستعيد عافيته ويفتح دفاتره، وهنا وجد البيت الأبيض أن زمام الأمور يمكن أن يخرج عن السيطرة، وبدأت الخلافات الخليجية – العراقية، وبدأ الأميركان في لعب دورهم المفضّل بزرع الفتن "فرّق تسُد"، فقد جُمعت دول الخليج لحرب خصمها الإيراني وبعد الانتهاء من تلك المهمة كان لا بد من تفريقهم استعداداً لمهمة جديدة.
بدأت واشنطن تُسرب معلومات للعراق عن مؤامرات كويتية ضد بغداد، منها ما هو اقتصادي والآخر سياسي، وفي الوقت ذاته بدأت تدعم الطرف الآخر من الخليج ضد بغداد، ووصلت الأمور إلى طريق مسدود في مؤتمر الرياض، 1 أغسطس/آب 1990، وعاد صدام إلى بغداد ولم ينتهِ 2 أغسطس/آب 1990، إلا والقوات العراقية قد سيطرت على الكويت العاصمة.
ثم بدأت الخطة الأميركية التالية، بداية النهاية لـ"عراق صدام" كما كانوا يسمونه، والتي تم فيها "ضرب العرب بالعرب"، وجني الأموال برعاية أميركية ومظلة أممية، ودان لهم العراق بسقوط بغداد 2004، وتم إنهاء كل أركان الدولة التي لم تقم حتى الآن.
انتهت قوة العراق وعاد الكويت كما كان قبل "الغزو" بل أفضل، ووضع الأميركان أكبر قواعدهم العسكرية في المنطقة التي لم تنعم بالاستقرار والسلام لفترات طويلة، فما إن تنتهي أزمة إلا وتنشب أخرى وهكذا.
بقراءة بسيطة لمسارات الأزمة الخليجية "قطر ودول الحصار"، نجد أن هناك خلافات "قطرية خليجية عربية"، منذ سنوات طويلة، وهذا راجع إلى أن قطر تغرّد خارج السرب الخليجي في عدد من القضايا السياسية، وعلى رأسها الإعلام، وهو ما يقابل بالاستنكار من بعض الدول العربية والخليجية، وفي كل الأحوال لم يتصور أحد أن تصل الأمور للحصار والقطيعة بتلك الصورة المفاجئة، يقول الأكاديمي والمحلل السياسي القطري الدكتور محمد المسفر: "إن الأمور كانت تسير بكل أريحية بين دول الخليج وقطر، ولم تكن هناك منغصات، وغادر ترامب والوفود الرياض ولم تطفُ على السطح أي خلافات".
إذن كانت كل الأمور تسير بشكل عادي، وفجأة يطل ترامب من خلال "تويتر" منتشياً ليعلن على الملأ نجاح الزيارة، وأنه حصل على الكثير من الأموال التي ستعزز وضعه الداخلي، ويرى هنا الدكتور محمد المسفر أن ترامب أطلق إحدى تغريداته بخصوص قطر وقال فيها: "قِيل لي إن قطر تدعم الإرهاب"، وتلك كانت "النميمة السياسية"، التي تهدف للخلاص من الحكم القطري أو تقييده وتكبيله وإخضاعه من جانب دول المقاطعة.. فأسرعت بلا حسابات سياسية إقليمية أو دولية بالقفز مرة واحدة من النقطة صفر إلى قمة الهرم.
وهنا يثار التساؤل: هل كانت تغريدات ترامب حول قطر إفصاح عما دار وراء الكواليس دون قصد أم أن ترامب يقصد ذلك وبالاتفاق مع أجهزته ومستشاريه، ويعلمون جيداً ردود الفعل العربية على تغريداته، وأن المنطقة سوف تشتعل؟
أنا أرجح سوء النية في تلك التغريدات، ويبرهن على ذلك التأييد الأميركي للقرارات الخليجية في البداية دون التطرق للقاعدة العسكرية الأميركية بقطر، ثم العودة للدوحة وإبرام صفقة الطائرات والإعلان عن تدريبات مشتركة، ولم تنتبه دول الحصار بل عادت بعد أسابيع للحديث عن المطالب الـ13 المطلوبة من الدوحة تنفيذها، وهي بنود تعجيزية لا يمكن تطبيقها على ميليشيا عسكرية وليس دولة "ذات سيادة".
وأعلن وزير الخارجية السعودي الجبير في تصريح صحفي بعدها: "لا تفاوض حول تلك المطالب مع قطر"، وحملت الكويت تلك المطالب إلى الدوحة والمهلة المحددة، كما حملت أيضاً الرفض القطري لتلك المطالب جملةً وتفصيلاً، واجتمع الرباعي بتنسيق ورعاية أميركية بعد مهلة الـ48 ساعة، وخفضت المطالب وخفتت الأصوات وتغيرت اللغة المستخدمة في بداية الأزمة، وتمت دعوة الدوحة للحوار.
الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية يوري بارمين نشر مقالاً في صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية جاء فيه: "الوضع حول قطر يتجه نحو التصعيد، ولكن في أي مجال؟ التصعيد العسكري غير مرجح؛ لأن وجود قاعدة عسكرية أميركية وأخرى تركية في قطر هما ضمان للدوحة؛ لذلك فإن التصعيد سيكون في المجال الاقتصادي، لإجبار القطريين على شد الأحزمة، فمثلاً توقفت المصارف البريطانية عن تقديم الخدمات لأي معاملة بالريال القطري، وأعتقد أن هذا تم تحت ضغط دول الخليج، وبالطبع لن تخفف الدول العربية شروطها".
وبحسب بارمين، ليس من السهل إثبات دعم قطر للمنظمات الإرهابية، وإن "الشيء الأكثر وضوحاً هنا هو قطع تام لعلاقاتها مع إيران، أو على الأقل كما تطالب السعودية والإمارات – تخفيض علاقاتها التجارية مع إيران إلى المستوى الذي يرضي الدول الخليجية المقاطعة".
ووفقاً للخبير الاقتصادي مصطفى السلماوي، هناك نية مؤكدة من دول الخليج لفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على قطر، من خلال طلب الدول العربية من شركائها التجاريين الاختيار بين العمل معهم، أو مع الدوحة، خصوصاً أن قطر تكبدت خسائر هائلة خلال أيام الحصار الأولى؛ حيث أغلق المجال الجوي أمام قطر بنسبة 70% والمجال البري بنسبة 100% والمجال البحري بنسبة 60%.
ونقلت صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية عن المحلل السياسي البروفيسور غريغوري كوساتش، قوله: "تبين من تصريحات المسؤولين القطريين الأخيرة أنهم لا ينوون أن يتراجعوا بعيداً".
ولا يرى "كوساتش" إمكانية إغلاق قناة "الجزيرة" وإغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر وقطع العلاقات مع إيران، مرجحاً أن توافق قطر على تقديم "تنازلات طفيفة تتعلق بتواجد المجموعات التي تنظر إليها الدول المقاطعة بأنها إرهابية في أراضيها، إنه أقصى حد ممكن لتراجع قطر، ولا مكان للحديث عن إجراء تغييرات خطيرة على السياسة القطرية".
ومن هنا نجد أن السيناريو الأقرب خلال الفترة القادمة من عمر الأزمة الخليجية سيكون اقتصادياً، ولا توجد سيناريوهات أخرى، وهذا السيناريو سيكون له تأثير ليس على قطر وحدها بل على دول الحصار، وأيضاً على الشركات العالمية العاملة في قطر أو باستثمارات قطرية دولية مشتركة وما أكثرها، وهو ما يعني أن الحصار الاقتصادي يمكن أم يظل إقليمياً دون غطاء دولي، وهذا واضح من الموقف الأميركي مؤخراً، وهو ما يعني فشل تطبيق هذا السيناريو أيضاً.
يبدو أن الأزمة الخليجية ستفرز واقعاً جديداً في منطقة الخليج وربما في المنطقة عموماً "عسكرياً"، بوجود قاعدة عسكرية تركية إلى جوار القاعدة العسكرية الأميركية بقطر، بالإضافة للقاعدة العسكرية لدول الحصار في البحرين، و"اقتصادياً" من خلال انتقاء الاستثمارات القطرية لأماكنها وربما التوسع في التعاون مع تركيا وإيران.. وهكذا ستنتهي الأزمة القطرية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.