بعد 80 يوماً من اغتيال ناهض حتر

هناك قصة عن فتاة صغيرة حلمت بأن حجابها هو مشرق عروبة وقدس وجمال.. لكن ذكراً ناهض حلمها معلناً أنها ليست أكثر من عورة يجب أن تُحجب بغطاء!!

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/13 الساعة 03:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/13 الساعة 03:21 بتوقيت غرينتش

بعد يومين من نشر تدوينتي الأولى "ما أنا بناهض"، اغتيل ناهض حتر في العبدلي.. أعمل في العبدلي، ويومياً أمرّ من أمام قصر العدل، في ذاك اليوم بالتحديد حدث شاغل وما مررت، وحين تلقفت الخبر عند وصولي كان وقعه مفاجئاً، وفي داخلي حمدت الله على ذاك الشاغل الذي جنبني أن أكون من شهود المقتلة.

ما أنا بناهض "2"، هذا ما كتبته فور حصولي على ورقة مباشرة بعد سماعي الخبر، هناك كانت مفارقات خطاب بعض شيوخ الدين في ترويج وتسويق رؤى ومنامات وعواطف ترجعنا عن النهوض آلاف الأميال، أمّا هنا فمفارقات مجتمع كامل فصمته أنظمة طالما حاربها "ناهض" ثمّ وقف إلى جانبها حين ناهضتها شعوبها!

كل ما اعتمل في نفسي كان يتمحور حول "ثورية" فصامنا، نحن الذين نقف كشهود على المقتلة ونمرّ بأيّامنا على مرايا التناقضات عابئين وغير عابئين، مُعلّقين وصامتين، قادرين على التجاوز وعالقين في مكان ما في زمان ما بمعارك تاريخية تتحدّث عن "حقّ.. لا نجد رجاله".

مفارقة رقم 1: ناهض حتر كان "يبرّر" للنظام السوري "إجرامه".

بعد اغتيال ناهض كان هناك من "يبرّر" لقاتل ناهض "إجرامه" كذلك!
كيف لعقل متزن أن يستنكر تبرير "قتل" ويقبل تبرير "قتل" آخر.. بعض اليسار العربي النهضوي لا أحد يباريه في إبداع التناقض حدّ الفصام.. حينما اندفع البعض محاولاً تفهمّ دوافع قاتل ناهض قام رفاق اليسار يعيروننا بوحشية بنيوية متجذرة فينا ديناً وفكراً ومجتمعاً بينما ونفس الرفاق كانوا يتقبلون تفهمّ ناهض لدوافع النظام السوري في قتل شعبه الناهض من عبوديته ويعتبرون تأييده له مجرد وجهة نظر.

يكتب د. عزمي بشارة "يُنظرّ بعض الثوريين للشعب كأنه كائن ميتافيزيقي، ولكن حين يخرج الشعب الفعلي العيني إلى الشارع فإنهم يخافونه" في توصيفه لعجز المثقف (الأنتلجيسيا) للوقوف إلى جانب شعبه في ثورته التي طالما حثّه عليها.

مفارقة رقم 2: أجلس فيها مع أقاربي أستمع بصمت لآرائهم حول أن ناهض يستحق الذبح لتجرّئه على مقام الله جهاراً نهاراً، وأنهم -أي المسيحيين- لن يحبونا أبداً ولن يرضوا عنا مهما كان.. وفي نفس اللحظة تخيلت كلامهم ماذا سيكون لو أن صدفة ساقت صحفياً من التلفزيون أن يكون حاضراً ليصوّر رأيهم.. متأكد أن أجوبتهم كانت ستتمحور حول الإخاء الديني والمحبة والسلام الذي نعيشه مسلمين ومسيحيين منذ الأزل. لم يناهض ديننا سلوكاً كما ناهض "النفاق".. ونفاقنا وللأسف جزء كبير منه باسم "الله".

فبين ما يقولونه الناس في مجالسهم وبين ما يقولونه على الكاميرات، نرصد مشكلة الفصام بين "ناهض" المثقف الذي يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول، وبين الناس؛ إذ يتلونون وفق المقام والمقال بعيداً عن أي صلادة لأساس "صدق" أو "مصارحة ذات"!
بين هاتين المفارقتين "ناهض" هو ذاك المثقف الذي تمّ اغتياله!

ويكتب د. عزمي بشارة: "المثقف الذي يُعادي الثورة، لا يفعل ذلك تأييداً للظلم – ومن الذي يعترف بتأييده للظلم – بل لأنها مؤامرة وشأنها شأن أي مؤامرة، لا تتضحّ خيوطها الخفيّة إلا لاحقاً، وليس في إمكانه الآن إلا تقديرها لنا بالتخمين والمضاربة، ناشراً في طريقه اللاعقلانية والجهل والإسفاف حيثما حلّت أقواله".

أهناك أكثر من اللاعقلانية والجهل والإسفاف في كل هذه القصة؟!
ناهض هو عربي، فكر وعارض وكتب وحاول أن يبذل شيئاً في سبيل وطن.. وفي نفس الوقت هو نفسه رمى شعباً كاملاً بالخيانة حينما حاول أن يبذل شيئاً في سبيل وطن!

ناهض هو عربي رصد التناقض ووقع فيه.. فكَّر وعارض وكتب وحاول أن يُبقي نوراً في آخر النفق! وفي نفس الحين حارب غيره ممن حاول أن ينير شيئاً في آخر من النفق!

كتب ناهض عن النهضة وكتب عن الخذلان.. ثم هو خذل جيلاً كاملاً حاول النهوض.
كتب ناهض عن العروبة وكتب عن الهوان.. ثم بدعوى العروبة طالبنا بقبول الهوان.
كتب ناهض عن الله وكتب عن الشيطان.. ثم باسم الله تأبطّ ذراع الشيطان!!

صرخ عالياً بأنّ الله في القلمون.. ولم نرَ هناك سوى بعض عمائم تذبح أبناء القلمون.
لَقَّبَ ابنه بالمعتصم ووقف حداداً على قتلى القياصرة وهم يشوون بطائراتهم أحفاد المعتصم.
قرأ لنا ناهض في كتاب التاريخ عن مشرق تشرق فيه شموس الحضارات الأبدية، ولكنه حين كتب بنفسه ذات المشرق كانت كلماته مجبولة بالدم الحلبي وشهقات أطفال غاز الكلور بالغوطة!

سؤالُ من اغتال ناهض حتر كلٌّ أجابه بطريقته.. الحكومة، جهاز الأمن العام، جريدة السبيل، المخابرات، الإخوان، الدواعش، الكنيسة و"رجب" معلم الأرجيلة! كلها إجابات تباينت واجتمعت رغم تناقضاتها.. بينما وقبلها كان هناك عربي في العقد الخامس من العمر بلحية ربّاها طويلاً.. عربي لم يدرس وفق المنهاج الذي تم تعديله! عربي نهض مبكراً ومشى على قدميه صباحاً إلى قصر العدل ليُردي ناهض برصاصات مسدسه بكل هدوء ويقين.. ذاك العربي كان يعتقد أنه مؤتمن على الله والأوطان.. كان يؤمن أنه بقتله نَاهِضْ هو "نَاهِضٌ" في سبيل الحقّ والحرمات! وبين ناهض وناهض.. نعم، ما أنا بناهض!. كيف لي أن أنهض وأنا قعيد تناقضات نهوضكم يا حماة الحرمات.

هناك قصة عن فتاة صغيرة محجبة تحبّ الغناء، انضمت لكورال المدرسة، عملت جاهدة لتطوير طريقة غنائها، أظهرت تميزاً في الأداء، وحين قررت المشاركة في العرض، قال لها اليمين: احترمي الحجاب، إن أردتِ أن تتحجبي تخلّي عن الغناء، واليسار قال لها: انتبهي قد تظنين الحجاب أمراً سهلاً ولكنه سيحدّ من كل فرص نهوضك المستقبلية ويجعل منك استثناء أكثر من كونك تنافسية في مجالك! دائماً سيكون الحجاب قضيتك عوضاً عن أي شيء.. تعبت قبل أن تبدأ! لم تغنِ وناهضت الغناء ولم تكن المحجبة الوحيدة في كورال المدرسة!

هناك قصة عن فتاة صغيرة تحبّ كرة القدم، طورّت مهاراتها ولعبت في المنتخب وحين قررت أن تتحجب حذروها من كونها ستغدو حالة بدل أن تكون لاعبة وانتكست فلم تنهض أبداً!

هناك قصة عن فتاة صغيرة حلمت بأن حجابها هو مشرق عروبة وقدس وجمال.. لكن ذكراً ناهض حلمها معلناً أنها ليست أكثر من عورة يجب أن تُحجب بغطاء!!
مثقفونا، مفكرونا، روادنا هم صخرة كبيرة تُثقل سيرنا في درب نهوضنا؛ لأنّ الصدق في مذهبهم قابل للتلوّن.. "إشكال" نهوضنا هو أنتم أيّها الناهضون بنا.. فأنّى لنا أن ننهض والناهض بنا قعيد!

تكتب د. نورة بوحناش: "لا ينهض الواقع الإنساني إلا بالقانون الأخلاقي، وهو في البدء قانون الصدق ومصارحة الذات، والانتقال من حالة المخادعة والزيف إلى حالة الصراحة والجدّ، وهي بالذات فرضية أخلاق القوة، إنه المنطق الذي يغيب الآن عن الإنسانية العربية في وضع انتكاسها واندحارها؛ لما تتصفّ به من مزاوجة رمزية تأخذ بباطن لا يتطابق مع ظاهر، وتحول رموز الثقافة إلى رد فعل دفاعي ضد كل تغيير وتخترع الخدعة والاحتيال لتمرير خطاب الضعف.. إنهما العقلان؛ عقل السياسي الذي سار نحو الاحتيال، وعقل الإعلامي الذي تميز بالخطاب المزدوج وتكريس منطق المخادعة والزيف، تكريساً لأيديولوجيا تمجيد الذات التي تبدو داخل الممارسة العالمية آخر ما يمكن للقوة!".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد