عن الفريضة الغائبة أتحدث!

قلة قليلة توقفت عند أسباب التراجع.. قلة أدركت جوهر الخلل وفطنت إلى علاجه

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/21 الساعة 04:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/21 الساعة 04:04 بتوقيت غرينتش

تنوعت تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم وتمايزت وفق مقامات عديدة؛ فمنها ما صدر عنه بوصفه مبلّغاً رسولاً، ومنها ما كان منه بوصفه قاضياً حَكَماً بين المتنازعين، ومنها ما أمر بفعله لكونه قائداً سياسياً وإماماً قَيِّماً على معاش أتباعه وتدبير شؤونهم، ومنها ما كان منه بحكم العادة أو الجِبلَّة أو الخصوصية، وغيرها من مقامات الخطاب النبوي التي أسهب في تِبيانها العديد من علماء الأمة، وفصَّل في توضيحها الدكتور سعد الدين العثماني في كتابه البديع "التصرفات النبوية السياسية".

وفي حين تنوعت تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم وتمايزت، تنوعت معها ميزاتها وأوصافها، فالعصمة التامة كانت سجيَّة بعضها، فيما حمل بعضها الآخر طابع الاجتهاد البشري.

أينما حلَّ الاجتهاد فثمَّ احتمالية الخطأ، ووقتما لاحت سمات البشر فثمَّ ورود النقيصة والزلل؛ فالجِبلَّة البشرية دائماً ما تقتضي وقوع الخطأ، والبشر في إتيانه متفاوتون، ولكنَّ بشرية الأنبياء غير؛ فهم المعصومون عن ارتكاب الممنوعات، وأخطاؤهم -كما بيَّنها العلماء- لا تعدو غير "ترك الَأوْلَى".

وفي حين نزل القرآن ليفيد من مَعينه المؤمنون وينتفعون، وفي حين كانت آياته محتضِنات لمعاني تربية المؤمنين وتقويم سلوكهم وضبط أفكارهم بميزان السماء؛ كانت من بين تلك الآيات مواضع شتى تدعو للمراجعة وتدارك الأخطاء، ومن بين تلك المراجعات أبدع المولى -عز وجل- حين جسَّد صورة منها على هيئة "عتاب" لنبيه وخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم.

"ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة.."، "عفا الله عنك لم أذنت لهم"، "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً"، "يا أيها النبي اتق الله"، "وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه"، "عبس وتولى أن جاءه الأعمى".. وغيرها من آيات العتاب التي عكست بجلاءٍ، فضيلة "المراجعة" كقيمة يحتاج إليها البشر جميعهم، فضلاً عن خيرتهم من الأنبياء والرسل.

في وَسَط الإسلاميين -الذين دانوا بالإسلام مرجعيةً لحركاتهم ومرتكزاً لأدبياتهم- كتب أحدهم كتاباً عن الجهاد فعنونه بـ"الفريضة الغائبة "، وتناقل المهتمون مضامينه في أوساطهم ردحاً طويلاً لم ينقطع حتى لحظتنا الراهنة؛ كَمَخرج وسبيل ينتشل الأمة الإسلامية من براثن السقوط.

كما نافح فريق "إسلامي" في مسار الإصلاح الدستوري، معتبرين إياه سبيل الوصول، فيما نهج آخرون طريق التغيير تحت مظلة المجتمع.. تعددت الرؤى، وتنوعت المسارات، وتراكمت في طرائقها سنوات طويلة من التجارب، ولا تزال الأمة الإسلامية بعد تلك الحصيلة تغفو في غيابت الجُبَّ، وإن كان ثمة نجاح قد لاح في أحد أقطارها؛ فذاك الاستثناء الذي يؤكد القاعدة!

قلة قليلة توقفت عند أسباب التراجع.. قلة أدركت جوهر الخلل وفطنت إلى علاجه.. قلة قليلة من بين المسلمين الذين تلاحقت عليهم الكوارث تباعاً في يومهم وليلتهم وما أشبهها ببارحتهم؛ فنهجت طريق "الاعتبار"، وأخذت تقتلع بمعاول "المراجعة" منابت الخلل الذي أودى بحضارة المسلمين، وشرعت تتأسى بالنموذج الإلهي في مراجعة خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي حين اكتفى بعض أولئك القلة بمراجعة الوسائل والمسارات، أخذ آخرون يواصلون النبش في مدافن الأسباب؛ ليدركوا كنهها وحقيقتها.. شرعوا في فرز الأفكار من منابتها ليقفوا عند حقيقة كبرى الأزمات التي تعانيها الأمة، والتي هي سبب رئيس لكل النكسات على المستويات كافة.

أزمة الأمة تكمن في ضعف التفكير السليم العاقل؛ فقد شاعت واستقرت عقلية عجيبة مشوهة! عقلية تتوهم مسَلّمات ما هي بمسَلّمات في النظر السديد، عقلية تقارن بين أشياء لا يصلح بينها مقارنة في المنطق السليم، عقلية ضعفت فيها مَلَكة النقد على كل مستويات النقد التي يعرفها البشر، عقلية كل همها الاستفسار عن الأرقام والأحداث والأسماء والأشكال والألوان، مع ضعف فاضح في فهم التحليلات والأنساق والعلاقات والأهداف والمعاني.

عقلية النظر بها إلى كل شيء هو نظر في ثنائية من الأبيض والأسود، فتختار اختيارات حتمية تبسيطية وفاسدة منطقياً، وتضيع الأعمار في معارك صفرية وصراعات وجودية ومناقشات سفسطائية عقيمة، عقلية ضيَّعت الدين من حيث أرادت الحفاظ عليه وانفصلت عن الدنيا من حيث توهمت عمارتها، عقلية انكمشت فيها القدرة على الإبداع والتحليل والتركيب وقصَّرت في استيعاب تعدد الألوان والدرجات والأبعاد.

عقلية نهجت تفكيراً تجزيئياً اختزالياً ضيقاً، لا ينظر إلى الواقع إلا من حدود زاوية نظر ضيقة، ولا يحكم على الأحداث إلا من خلال مقارنات سطحية شكلية؛ ليُنتج هذا النوع من التفكير جموداً على مواقف وآراء وتفسيرات أفنت أعماراً وأضاعت حيوات هباءً في هباء!

عقلية ضعف فيها التفريق بين الثوابت والمتغيرات، ومرضت معها الثقافة الإسلامية بأمراض الانغلاق الفكري والتقليد الفقهي والانكفاء على الأفكار الموروثة التي لم تعد تناسب العصر بأي حال!

إذا كان ثمة "فريضة غائبة" في يومنا هذا؛ فهي فريضة "المراجعة" بلا شك، فريضة تصحيح المسار، فريضة التفكير من أجل تحصيل العظة والاعتبار.

"التفكير المقاصدي: مراجعات لترتيب العقل المسلم"، كتاب يعيد ترسيم خريطة الدين بعد بناء أحجار الأساس التي ترتكز عليها عقول المسلمين؛ حيث يبحر بك كاتبه المتميز، الدكتور جاسر عودة، في تشخيص دقيق لأمراض العقل المسلم التي جلبت إليه الكوارث تتراً؛ ليخلص القارئ بعشر مراجعات تسهم في عودة العقل المسلم إلى مسار التفكير السليم.

كتاب مفعم بخلاصة ما تحتاجه الأمة، بالدواء والأدواء، في طرح بسيط جدير بالبحث والمدارسة والتطبيق، ولكن فقط لمن أدرك قيمة "المراجعة" كفريضة غائبة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد