مثلهم مثل بقية الشعوب ينشغل السوريون بصور"السيلفي"، والفارق بينهم وبين غيرهم هو موضوع بعض صورهم التي تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي. "فيسبوك" وغيره.
انقسم السوريون منذ سنوات وتباينت وجهات نظرهم ومواقفهم لدرجة العداء، وبات أقرب الأصدقاء مشروع عدوّ محتمل عند أصغر خلاف. ويسأل معظمنا: لماذا وصلنا إلى هذه الحال؟ لماذا لم نستطع صهر خلافاتنا في بوتقة السياسة كما يحصل في معظم البلدان؟ طبعاً يمكننا الهروب من الإجابة الجوهرية إلى الإجابات الثانوية التي قد تحمل بعض الحقيقة لكنها تبقى ثانوية أمام الجواب: لأننا حُرمنا من الحياة السياسية طيلة العقود الأربعة الماضية. فكيف سنعالج خلافتنا سياسياً بين ليلة وضحاها وسط هذه الفوضى "الخلّاقة" التي شوّشت العقول وصمّتِ الآذان. وللأسف لم يعد ينفع اليوم هذا الكلام، فالسوريون وقعوا في المصيدة وهناك من يجلس حول الطاولة ينتظر حصّته ويوثّق اللحظة ولسان حاله يقول: "سيلفي وليفنى الكون من بعدي"
انقسم السوريون، ومن الخطأ ـ إن لم نقل من الغباء ـ البحث عن طرق لتقريب وجهات النظر، والصحيح هو الاعتراف بالواقع والبحث عن سبل لقوننته وإيجاد أسس جديدة لحياة مشتركة بين "الأعداء" ومن ثمّ تجاوز هذه المرحلة إلى فضاء أوسع يؤسّس لمناخ سياسي حقيقي يجمع السوريين على اختلاف مشاربهم ويكون الفصل فيه لصناديق الاقتراع. وهذا بحاجة لوقت طويل ولمشروع وطنيّ حقيقيّ لا يبدو ـ للأسف ـ أيّ بادرة لولادته الآن. بالإضافة إلى أنّ هذا لن يحصل إلّا إذا سكتت ـ أو أُسكتت ـ المدافع وربّما لبعض الوقت الأفواه. ومن المؤسف أيضاً القول إنّ هذا الأمر بات خارج إرادة السوريين، فالأمر رهن بتوافق مصالح الدول الكبرى (روسيا وأمريكا) وما لديهما من حلفاء. ولا يبقى لنا بعد ذلك كسوريين نتلظّى في هذا الجحيم سوى السؤال: متى سيحصل ذلك؟ ولا أظن أن هناك من لديه اليوم جواباً يتجاوز مفهوم القيل والقال. وبعض الصور مع تعليق: "سيلفي والمجهول من خلفي".
انقسم السوريون انقساماً لا رجعة عنه ولن يعودوا كما كانوا ـ منقسمين في الخفاء ـ بل سيرفع كلّ فريق صوته على شكل راية صارخة الألوان، وقد بدؤوا فعلاً هذا الدرب "علناً" منذ اللحظة التي تخلّى فيها طرف عن علم البلاد الذي أسموه "علم النظام" واستعاضوا عنه بعلم "الثورة" بنجماته الحمر الثلاث. فكثرت الصور من نوع "سيلفي وعلم الثورة خلفي" تقابلها "سيلفي وعلم أبو عيون خضر خلفي"، لتتطوّر المعركة إلى "سيلفي وخلفي فطائس الإرهاب"، يقابلها "سيلفي وخلفي جيف نصيرية النظام" بالإضافة إلى "تم الدعس" و "تم العفس" وإلى ما هنالك من صفات سعى كلّ طرف من خلالها إلى شيطنة الآخر. وهكذا تكاثرت الصور ومعها البيارق والأعلام ليظهر فيما بعد الّلون الأسود وليطغى على المشهد ويصبح رمزاً للإرهاب رغم تزيينه بكلمات مقدّسة مثل "لا إله إلّا الله محمد رسول الله".
انقسم السوريون أفقياً وشاقولياً وبكل الاتجاهات، وانقسم معهم العالم حسب مصالحه. فتاجر السّلاح وجد موطئاً لقدمه في كل السّاحات، وتاجر النفط اختار الساحة الأقرب إلى الأنابيب والآبار، كذلك تجّار الأعضاء البشرية باتت المقابر وربما المشافي ملاعب لهم يلتقطون فيها الصور ومن خلفهم جثث السوريين من كلّ الطوائف والانتماءات؛ فالجثث جميعها سواء. أمّا تجّار السياسة فلهم الملاعب كلّها ولا فارق بالنسبة لهم ـ إلّا ما ندر ـ بين معارض و موالٍ أو مقاتل ومسالم أو إرهابيّ ومقاوم، إلّا بما يقدّم من تنازلات وتعهدات وحملات إغاثة أو حملات مصالحة تدرّ عليه المال أو الجاه أو أيّ مكسب آخر يرفع من شأنه ويعطيه امتيازاً يخوّله الخوض في المزيد من المراهنات أو المؤامرات أو المؤتمرات التي ستكون مناسبة لأخذ صور الـ"سيلفي" المعنونة بعبارة ما.
انقسم السوريون وتقاسموا الوجع والخوف، وتقاسموا الموت والأشلاء. فمنهم من استشهد ومنهم من فطس ومنهم من مات موتة ربّه التي باتت موضع حسد من قبل كثيرين ممن اختفى أولادهم دون خبر عنهم منذ سنوات. ولا سيلفي يجمعهم بهم ولا اجتماعات ولا مؤتمرات.
أخيراً أقول:
إنّ كلّ ما يتعلّق بهذا الصراع يمكننا تجاوزه في المستقبل كما حصل في جنوب إفريقيا على سبيل المثال. ولا مناص من عملية سياسية يخرج عنها خطة وطنية جادّة مشمولة براعية دولية ـ لا بدّ منها ـ وسيعمل الزمن فيما بعد على بلسمة الجراح. قد يتسامح الناس في سبيل مستقبل بلادهم إن وجدوا ثمة أمل، لكن لن ينسوا ـ ويجب ألّا ينسوا ـ كي يبقى في الأذهان الثمن الباهظ الذي دُفع جرّاء الاحتراب، عساه يكون رادعاً ودرساً للأجيال. أمّا صورة الـ"سيلفي" المشتهاة، فهي لسوريا مع تعليق: " سيلفي والحرب صارت خلفي منذ سنوات"
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.