وضع الإبداع والحرية في مأزق؛ بسبب تناقض الواقع مع قوانين وسندات دستورية، المفروض أنها تضمن مساحة واسعة لحماية الإبداع وتحصينه لقدرته على المواجهة واختراق الممنوع والنبش في المسكوت عنه.
"سيد الخطاب هو السيد" كما يقول "تزفيتان تودوروف"؛ لذا تحاول السلطة تسيد الخطاب وبهاجس سياسي تمارس الرقابة والوصاية علي الحريات والإبداع بما ينسجم مع ما يحفظ لها تسيدها.
ويعمل دائمًا أخطبوط السلطة على السيطرة على إحكام أرجله حول الفكر والتعبير وترويض المجتمع وضم السلطة المعرفية والثقافية لسلطته السياسية ومحاولة احتوائها، إما بمغازلتها أو بقمعها أو بتهميشها من الأساس.
إذن الحرية والإبداع يصيرا كيفما تريد السلطة ومتى تريد وفقًا لمصالحها وما يضمن لها المكسب في الصراع بين السلطة والمجتمع والإبداع. وتضع الحدود للتعبيرات والأفكار التي تحاول فهم العالم وتغييره، تتبع الفكر وتحاصره لإجهاضه.
مجال محاسبة الخطاب الإبداعي ليس الحكم القانوني، وإنما النقد بأدواته وتأويلاته لا النص القانوني الجامد والحاد. وإلا ما الفرق بين النص الإبداعي المتخيل، والنص الفكري والمقال الصحفي ومشاريع القوانين؟ ليس هناك شيء في الحياة فوق المساءلة طبعًا، والثقافة والفكر يخضعون للمساءلة. ولكن المساءلة في الإبداع لها عنوان محدد هو النقد وليس المحاكم وليس تواطؤ السلطة والقانون.
تتوارى السلطة دائمًا حول سبب جاهز للحجر على الإبداع لتسوقها للمقاضاة أو تصدرها للتجريم والتكفير. تستعين إما بغطاء مجتمعي وتأليب الرأي العام أو بمؤسسات دينية في اتفاقيات وصاية شبه مبرمة أو برجالاتها من المثقفين المدجنين الذين تروضهم بالمناصب وتخضعهم لسلطتها.
المؤسسات الدينية وسيادتها اللاهوتية -الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية كمثال- تعني بحماية- الدين وروحانية المجتمع. لكنها تراهن دائمًا على موقعها ومكانتها ومدى قوتها في توجيه الرأي السياسي والديني. تتخذ أيضًا المؤسسات الدينية بادرة التحكم في تحريم النصوص الإبداعية والفكرية، بالمزاوجة بين التجريم الدنيوي وعقاب الآخرة واتهام متن الإبداع بالخروج والإفساد في الأرض، انطلاقًا من فاعلية فتواهم التي تجد صداها. كما تحدد تلك المؤسسات ما يجب وما لا يجب.
الأمر الذي ينفي وينسف قاعدة الاجتهاد والسعي لفرز وتحسين الأمور، كما تنطلق من مبدأ تغليب النقل علي العقل وتفضيل الجامد على التأويل. المؤسسات الدينية تدافع عن سلطتها هي وفاعليتها هي أكثر من دفاعها عن أي شيء آخر.
تحرص السلطة أيضًا على تغذية سلطوية الرأي العام لصالحها وتبني أحكام وقناعات يُساق لها. وتبقي مرجعيات تلك المنظومة -أي الرأي العام- مرتبطة بالعادات والتقاليد والواعظ الديني. والرأي العام قد يُشكل أحيانًا عقبات، أكثر مما يشكل الحجر الديني والسياسي. الرقابة الصادرة عن النفاق الاجتماعي، الفاشية المقنعة، التي تتربص بأي شيء ليكون كبش فداء لمعتقدات لا وجود فعلي لها والادعاء أنها تحافظ علي تماسك المجتمع وانسجامه.
بعض المثقفين كذلك يتشدقون بالدفاع عن الحرية والإبداع، لكنهم يلغّمون كلامهم بلكن.. وكان يجب.. ولم ينبغِ.. ليواربوا الباب لإرهاب الإبداع. فئة من المثقفين الذين يخونون شعبهم حين يتخلون عن رسالتهم ويفرّطون في مبادئهم في سبيل الحصول على بعض المنافع المادية والبحث عن الوجاهة كونهم أصلاً مفتونين بالسلطة ليمارسوا ذكوريتهم.
أونتيجة الخوف من العقاب السلطوي والرهاب من مصير غامض كان ينبغي عليهم مواجهته. المواجهة التي تكون بالاحتجاج والتفنيد أو على الأقل عدم الدعم والمحاباة.
المثقون الذين تتخذهم الدولة واجهة لها، لاستخدامه وتصديرهم للحماية من النقد والاحتجاج ومحاولة التغيير والاصلاح.
إن إرهاب الدولة -كما يقول حلمي سالم- سياسيًا واجتماعيًا، عامل جوهري في إنتاج الكارثة. أما أكثر قسمات المشهد إيلامًا فهو مشاركة النخبة المثققة في كارثة نفى الآخر.
فشل السلطة في جعل وجودها مرغوبًا، وعجزها عن تحقيق منجز حقيقي يضمن لها الاستمرار، يجعلها تلجأ للقمع ومحاولة المقايضة واللعب بالأوراق وخلطها. تزييف الوعي وتجهيل الفرد، قد يطيل عمر السلطة، لكنها بذلك تضمن التنكيل في النهاية لنفسها، الشعب الجاهل يقتل، الشعب الواعي يحاسب.
إرهاب الدولة لإخضاع الكل لسلطتها وقمع الحريات والإبداع قد يخمد الصوت أو يشكل ثقافة معدومة الصوت ليصير المجتمع كتلة صامتة، لكن إرهابها ينضم بصورة أو بأخرى لإرهاب التطرف الديني وكل أشكال الإرهاب والتطرف، حتى وقت يصبح فيه كل قهر، قنبلة موقوتة تهدد الجميع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.