فرِح كثيراً بصدور كتابه الجديد، يتناول فيه الفلسفة العربية وبدايات ظهور علم المنطق، هو كتاب رائع خلص فيه إلى المزج بين القديم والحديث، فلم يتعصب لمذهب ولم ينحَز إلى طائفة ولا فكر؛ بل أخذ "المُناسب" من جميعهم وترك الذي لا يصلح في زماننا، هكذا ارتكز كتابه وبدت فلسفته وعناصره.
أخذ يناقش كتابه على شاشات التلفزيون، وخاصة بعد توزيعه الرائع بمعرض الكتاب، كانت له "بروباغاندا" واسعة جداً، أُعجب به الجميع، كتابٌ مختلف فعلاً، يمكن أن نقول إنه لا يضاهيه كتاب في العصر الحديث، وخاصة بعد اتجاه الجميع للكتابات الروائية وميل القراء إلى ذلك النوع من الكتب، لكنه بدا مميزاً جداً، سلساً ومكتوباً بأسلوب سهل ممتنع.
هكذا يخطو حثيثاً نحو حُلمه، مُجدّاً ومُتألقاً، وخاصة في وسائل الإعلام، يبدو أنه مقتنع تماماً بمحتوى كتابه وفلسفته، يدافع عنها بشراسة وساعده في ذلك طلب إحدى الصُحف منه أن يكتب لهم مقالاً أسبوعياً يتناول فيه فلسفته كيفما شاء ويعرض من الموضوعات ما يريد، الآن أصبح "كاتب عمود أسبوعي".
( 2 )
"عليّ، مالك يا بني قاعد قُدام اللابتوب ليل ونهار كده! ارحم عنيك شوية"، قالتها أمه وانسحبت إلى غرفتها لتنام، الساعة الآن الواحدة ليلاً أو صباحاً كما تقول العلوم، لكن لا يقتنع أحد أبداً -وخاصة في الأرياف كجيران عليّ وحتى أمه- بأنها "صباحاً" طالما النهار لم يأتِ بعد.
يجلس "علي" هكذا -آناء الليل والنهار- يذهب للصلاة، يأكل ويشرب ثم لا يلبث أن يعود لسيرته الأولى، هو يعمل على الإنترنت في مجال الكتابة على الإنترنت، يكتبُ مقالاً لفلان، يراجع آخر لعلّان، ويكسب من عقله ومهارة الكتابة التي يمتلكها فرحاً بذلك.
من خلال هذه الحِرفة، يتعرف "عليّ" على شخصيات كبيرة، كبيرة في الاسم فقط، يمتلكون من الشهرة ما يجعل كُل شيء أمامهم سهلاً يسيراً، يبيعهم موهبته الفذة؛ رئيس تحرير ورث المهنة عن الست الوالدة لا يجيد الكتابة ليقوم "علي" بذلك عوضاً عنه، يكتب افتتاحية الجورنال، مقالات رأي وكُتُب، يمدح هذا ويذم ذاك، يقوم "علي" بكُل شيء من وراء ستار، يقبض على ذلك ولكن دون أن يعلمه أحد.
( 3 )
فكّر كثيراً أن تكون له كتاباته الخاصة ولو حتى كتاب صغير أو مقال على صفحات أي جريدة حتى ولو كانت مغمورة، لكن كُل هذا كان مجرد تفكير، لم يتحول مرة لخطوة جدية نحو أي شيء.
"هوا إنت إزاي بتكتب للناس دي ومحدش يعرفك؟ حرام عليك نفسك يا بني، معندكش أي طموح؟ إنت الوحيد اللي تستحق كُل النجاح ده، الناس لازم تعرفك إنت مش هما".
هكذا كان يُصارحه صديقه الوحيد. فعلاً، هو عبقري جداً، تخرّج حديثاً في كلية الآداب بقسم اللغة العربية، يعشق الكتابة والقراءة، يكتب الشعر والقصص، يمتلك موهبة فذة ولكن بطموح أقل، فلم يحاول يوماً حتى أن يقوم بتجميع قصائده التي كتبها، هو فقط يكتب ثم يكتب ثم يكتب، وكأنها غايته الكُبرى.
تقدم ذات يوم لوظيفة "مُدرس لغة عربية" عندما وجد إعلاناً على الإنترنت، قال في نفسه: "وماله". كان لزاماً عليه أن يحصل على "دبلوم تربوي"؛ حتى يلتحق بالتدريس، فإجادته اللغة غير كافية في نظر الحكومة؛ لذلك حتى يمتهن التدريس عليه أولاً أن يكون "تربوياً"، كان قد قرر أن يخوض التجربة فحصل على "الدبلوم المقصود" وبدأ العمل.
لم يتحمل "التدريس" أكثر من شهر، لا يجد نفسه حُراً إلا وهو يكتب، كان لا يحب القيود أبداً ولا حتى قيود الوظيفة؛ لذلك لم يتردد -ولو لحظة- في تقديم استقالته؛ ليعود حُراً كما كان، غير نادم على التجربة التي خاضها؛ فقد كانت هذه التجربة نهراً ينهل منه الكثير من الأفكار لمقالات وكُتب وقصص أخرى، يرويها بكتاباته المُستمرة التي لا تحمل عادةً اسمه؛ بل تكون مصحوبة بأسماء آخرين دفعوا من أجل ذلك.
(4)
سقطت أقنعة هؤلاء أمامه، يطلبون بكُل ما يملكون من بجاحة أن يتنازل عن حقوق ملكيته الفكرية لكل ما يكتب، ولا يرى الواحد منهم حرجاً أن يحشر اسمه، زوراً، في نهاية المقال أو على غلاف الكتاب، ولا غرابة في زمن الوهم أن تجد أمثال هؤلاء، فالثقافة والعلم والكتابة أصبحت "منظراً"، فما المانع أن أشتري مقالاً أسبوعياً بمالي؛ لأنشره في إحدى الصُحف بمالي أيضاً، فأحصل بعد فترة بسيطة على لقب "الكاتب الكبير".
"عددٌ ليس بالقليل من كُتّاب هذا الزمان مثل هؤلاء الكُتاب المُزيفين، فثقافتهم ضحلة وعلمهم والعدم سواء، فعندما تُناقشهم ستكتشف ذلك فوراً أو ربما تكتشف أغلبهم؛ لأن منهم من احترف الزيف فيُعجبك قوله وهو في الحقيقة لا يعرف من الشيء إلا اسمه، فيذكر في حديثه (الديمقراطية، والبرجوازية، والديكتاتورية) وكل ما ينتهي آخره بـ(يَّة)، لكنه لا يعرف -حقيقةً- معنى ما ينطق! فقد اختزلنا الثقافة في القشور، نتفاخر بعدد الكُتب التي قرأناها، نُردد أسماء كُتّاب ومؤلفين ومترجمين وفلاسفة وعلماء فقط (أسماء) نرددها دون معرفة حقيقية"، هكذا كان يردد "علي" بينه وبين نفسه في أحد الأيام، لكنه استسلم لذلك تماماً.
(5)
طلب منه كتاباً عن الفلسفة، لقد جاء إذن إلى ملعبه، فمن هوايات "علي" الأكيدة أنه يقرأ كثيراً -ربما يومياً- عن المذاهب الفلسفية، وخصوصاً الإسلامية كالأشاعرة والمعتزلة والجهمية، كان مُعجباً أيضاً بمذاهب الغرب، يعرف الكثير عن مذهب النفعية أو المنفعة، لعله يؤكد أنه السائد هذه الأيام وليس ما ابتدعه الفيلسوف اليوناني أرستبس حينما خلص إلى أن اللذة هي صوت الطبيعة، وأن كُل إنسان عليه أن يبحث عن مصلحته ولذته وما ينفعه دون أن يُحرك ساكناً لشأن الآخرين.
كان شديد الإعجاب بالإمام الغزالي وفلسفته، وخصوصاً رأيه في الأخلاق، "فالخُلق في نظره هو هيئة راسخة في النفس تصدر الأفعال عنها بسهولة ويُسر من غير حاجة إلى فِكر وروية"، وكان لهذا التعريف أثر كبير في نفس "علي"، معظم كتابات "الغزالي" كان يحبها جداً، فكان يشرح لأمه -سيدة الريف البسيطة- تلك الأفكار وكانت تُجاريه، تفهم أغلب كلامه وتجهل البقية، يُسهّل لها المصطلحات ويشرح لها المعاني، هي كُل شيء بالنسبة له، دنياه وآخرته كما اعتاد أن يقول لها، فقد مات أبوه وهو في الثانوية العامة ومنذ ذلك الحين حمل على عاتقه مسؤولية البيت، فلا أخ له يؤازره ولا أخت تؤنس أمه.
(6)
أنهى له الكتاب وأبدع فيه حتى الثمالة، صراع الفلاسفة، لا يهم هنا في الكتاب مَن الأفضل ومَن الأصح ومن كان على صواب ومن مشي في طريق الخطأ؛ بل أكد أن جميعهم أرادوا الحقيقة وجميعهم حاولوا وجميعهم سعوا لتحقيق ذلك، وما علينا سوى أن نأخذ من كل فلسفة ما يصلح في زماننا دون أن ننال من صاحبها إذا احتوت على أخطاء، كل ما علينا أن نجمع بين الصحيح من القديم والجديد، العربي وغير العربي، الإسلامي وغير الإسلامي، أن نستفيد من كُل الثقافات وكل الفلسفات؛ لأن هذا هو الطريق الوحيد لنهضة مجتمعنا.
أخذ هذا الكتاب من "علي" شهوراً من السهر والتعب والقراءة والبحث حتى يبدو هكذا في شكله النهائي، "لا كده كتير خالص" قالها لـ"علي" عندما عرض عليه السعر، نعم سعر الكتاب، ولا ندري أيَّ سعر، سعر السهر والكتابة والبحث أم سعر تنازل "علي" عن حقه في الكتاب، ليترك له الغلاف مُستباحاً يكتب فيه ما يشاء، ويلصق اسمه به كيفما يشاء.
اتفقا وانتهى الأمر، يبحث "علي" -جالساً مكانه- عن "كاتب كبير" آخر؛ ليعقد صفقة جديدة كهذه، ويتنقل "صاحبنا" من شاشة لأخرى يُناقش مضمون الكتاب، مؤكداً أنه سهر الليالي حتى يخرج للناس بهذه "الخُلاصة"، فهو الدُكتور الكاتب الكبير المثقف واسع الإطلاع والإدراك والمعرفة.
القصة من خيال الكاتب ولا تمت إلى الواقع بِصلة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.