بسم الله الرحمن الرحيم "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل" بدأت السورة بهذا الاستفهام الذي يدعو إلى النظر، والرؤية التاريخية والاعتبار بما حدث.. واختيار الفعل "ترى" بدل فعل "تعلم" يناسب ما كان متواتراً وقريباً، وكأنه مرئي في أهل مكة، عن الحدث العظيم الذي لم تمر بمثله مكة من قبل، وهو استهداف مكة والبيت الحرام فيها من أصحاب الفيل.
والحدث لقربه الشديد (أكثر من أربعين عاماً بقليل) قد عاصره كثيرون من الذين حضروا نزول سورة الفيل، وكان الحدث عظيماً إلى درجة أن قريش اتخذته عاماً للتأريخ.
فعل "رأى" في القرآن الكريم يجاوز رؤية العين إلى التعمق والتدبر.. وفي سورة الفيل كان السؤال دعوة لرؤية إدراك عميق لمدى قدرة الله العظيمة ورؤية إدراك للكيفية.. "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل"..
فلنتمعن في الكيفية.. لقد ساق أبرهة لهدم الكعبة جيشاً قوامه الأفيال، وجعل في مقدمتها فيلاً عظيماً.
استخدم الفيل في الحروب منذ أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد حتى الحرب العالمية الأولى.
الفيل كان بمثابة السلاح البري الثقيل الفعال في الجيوش القديمة، وبما يشابه الدبابة أو المدرعة اليوم في كثير من الجوانب.
شكل الفيل يشبه الدبابة، فرأسه برج كانوا يضعون فوقه إلى الخلف قليلاً من يقود الفيل، وربما يضعون راصداً أو رامياً مع الرماة الذين يكونون في موضع محصن على ظهر الفيل.. وعلى الدبابة هناك رامٍ أو رماة فوقها.
والمشاة كانوا يتقدمون خلف الفيل كما يتقدم المشاة خلف الدبابة اليوم.
وإثارة الرعب باستخدام الفيل حجماً وشكلاً وصوتاً يشبه الرعب الذي تحدثه الدبابة اليوم.
وجلد الفيل أمام أسلحة الماضي كدرع الدبابة اليوم، فإذا علمت أن سماكة جلد الفيل تعادل ثلاثة عشر ضعفاً من سماكة جلد الإنسان وبدون وجود أي غدد أو بصيلات وبدرجة تقرُّن عالية جداً، فستقول هو درع حقيقية في مواجهة أسلحة الماضي.
والفيل يقتحم المواضع والتحصينات كما تفعل الدبابة بقياس كل لزمانه.
ولعل في خرطوم الفيل إشارة شكلية أخرى إلى مدفع الدبابة مع الفارق.. ولا ننسَ أن للخرطوم عند الفيل المدرب استخدامات عسكرية في الاقتحام والضرب.
الفيل رمز سلاح البر الثقيل.. رمز سلاح المدرعات المعاصر.. وسلاح الدروع لا يُستهان به وهو حاسم لا يُغفل منذ أكثر من مائة سنة.. ولكن لقد آلت الحروب وتقنياتها وآلاتها إلى حقيقة واضحة حاسمة.
لقد سيطر سلاح الجو على سلاح الدروع، وإذا حصلت المواجهة بين السلاحين، فإن سلاح الطيران يغلب ويفوز، ومن ليس عنده سلاح جو قوي فلن تنفعه الدروع أمام طائرات حديثة تملك الصواريخ من كل نوع: ضد الدروع، وضد المشاة، وضد المواضع الحصينة.
وفي سورة الفيل اختار الله جلَّ شأنه الأسباب والوسائل التي وجهها إلى إهلاك المغيرين المعتدين، أصحاب الجيش الضخم المدرع.. وأخبرنا بتفصيل وافٍ عن تلك الوسائل، بل أعطى للمعتدين صفة وسيلتهم العسكرية، فقال أصحاب الفيل، وكأنه يقول أصحاب الدرع، وقد كان في جيش أبرهة أفيال كثيرة قالوا إنها بلغت أكثر من ثلاثة عشر فيلاً.
أخبرتنا سورة الفيل بأن الله اختار وسيلة الطير الأبابيل من السماء لتدمير القوة المدرعة البرية المعادية.
والطير الأبابيل هي الأسراب المتتابعة الكثيرة التي تأتي من عدة اتجاهات، وهذه الطيور ترميهم: ترمي المستهدفين بدقة، ولا تضرب المنطقة التي هم فيها بشكل عشوائي، إنها ترميهم بحجارة من سجيل.
قال الزجاج في كلمة سجيل: من سجيل، أي: مما كتب عليهم أن يعذبوا به، مشتقة من السجل..
"أي مسجل عليها نوعها في الاستهداف"
إنها حجارة موجهة مخصص كل منها لهدف من نوع معين، فمنها بلا ريب مخصص لضرب الأفيال وخرق جلودها، ومنها مخصص لضرب المشاة والخيول، وأخرى لضرب المعدات الحربية التي أتوا بها وهكذا.
إنها كالصواريخ الموجهة التي نراها صباح مساء في أيامنا المعاصرة، هذه صواريخ مخصصة ضد الدروع، وصواريخ ضد الأفراد، وأخرى لخرق التحصينات، وكلها صواريخ معدة مصنعة مرقمة مسجل عليها نوعها.
وبعد الغارات المتتابعة المنسقة تكون النتيجة في الأعداء أنهم أصبحوا كالتبن المأكول الذي يخرج كفضلات من الحيوان بعد الهضم.
هو مشهد نشاهد مثله كل يوم حين نرى آثار قصف الطيران بالقنابل والصواريخ، وما يتركه هذا القصف في الآليات والإنسان والبنيان.
"سلاح الجو يتغلب على سلاح البر" حقيقة نجزم بها في أيامنا المعاصرة.
وإن في اختيار الله لوسيلة الجو لتدمير وسائل البر الثقيلة ثم في إخبارنا عن ذلك في سورة الفيل لدلالة واضحة وحكمة بالغة، ويبدو أنه لن تقوم لنا قائمة إلا إذا تمكناً وامتلكنا طيورنا الأبابيل وحجارتها السجيل، أو استطعنا إسقاط طيور الشر التي ترمينا بكل ما حرَّم الله والإنسان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.