الزائد والناقص في منظومة القيم

كثيراً ما يهرب الإنسان من إلحاح ضميره عليه -عند الإساءة أو الوقوع في الخطأ المهني أو المؤسسي أو التجاري- إلى التفتيش عن فتوى تريح القلب الذي يفتي بغير ذلك

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/22 الساعة 02:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/22 الساعة 02:09 بتوقيت غرينتش

في ثقافتنا العامة الكثير من الآثار والنصوص، منها المقدس ومنها المقدر، والتي تحض على التوسط، وعلى أن "حب التناهي غلط وخير الأمور الوسط"، ونقول في مثلنا السائر إن "الزايد أخو الناقص"، مع ذلك فهناك من لاحظ أن شعوب منطقتنا لا تكاد تميز إلى أقصى الحدود والنهايات، ولا تميز جيداً الطيف الواسع بين كل نهايتين. نلج من هذه المقدمة لنقول إننا أمام مشكلة حقيقية إذا كنا لا نستطيع أن نميز جيداً الطيف الواسع بين "الإيثار" و"الغصب"، وبين "التبذير" و"الشح"، فالقيم المشتركة ومعايير السلوك وأخلاقيات العمل لا يمكن أن تقوم لها قائمة عند أي من الطرفين.

يرى المفكر المغربي محمد الكتاني في كتابه القيم "منظومة القيم المرجعية في الإسلام" أن تحقيق التوازن بين جاذبيات القوى النفسية من أشق الأمور، ذلك أن جاذبية الجسد تغالب جاذبية الروح، وجاذبية الأنانية تغالب جاذبية الغيرية، وجاذبية الشعور بالحق تشوش على الشعور بالواجب داخل ضمير الإنسان. والتوازن المنشود هو ما يحققه لسان الميزان الذي يستقيم بين الكفتين. وهذا ما لا يستطيعه إلا الذين وطنوا أنفسهـم بالوعي الخلقي والإرادة الصلبة على الوقوف في وجه غلواء كل منهما، بتفعيل الكوابح النفسية التي تمنع من الانفلات والتطرف إلى إحدى الجهتين.

فالمرجع القيمي للمؤسسات كما للمجتمعات هو جزء من هويتها وشهادة ميلادها، وحاجتها لإطار قيمي لتحقيق رسالتها ورؤيتها، أصبح علماً نظرياً وممارسة عملية، ولا تجد خلافاً عليه إلا حين تغيب المؤسسية والتخطيط بعيد المدى كلياً. وكما أن إهدار أو إغفال القيم مدمر للمؤسسة، فإن وضع معايير قيمية غير واقعية وغير قابلة للتطبيق بل وزائفة، وخلط الأوراق من خلال ذلك يؤدي إلى ذات النتيجة. فالنهايات لا يطيقها الناس إلا النزر اليسير منهم، فإذا تساوى كل ما هو دون المثال، فنحن أمام مشكلة حقيقية في منظومة القيم.

المثالية في الأخلاق، والارتقاء مدارج السالكين، وتطهير النفس هي من معاني الإحسان العظيمة في التربية والسلوك والتصوف، ولكنها لم تكن يوماً معايير صالحة للعموم، ومن ذلك بالتأكيد بيئة العمل المؤسسي في المجتمع. إن غياب هذا التمييز، سواء كان عن تواطؤ أو إهمال هو ضرب من الطوباوية، التي تقود إلى الانسلاخ أو النفاق، وبالتالي تبدد المنظومة، ورغم أن بيان اختلاف قدرات الناس وأحوالهم، ومقام كل مقال، وموطن كل معيار مبسوط في علوم وتقريرات السابقين واللاحقين، فإننا لا نكاد نلمسه هنا على الأقل.

كثيراً ما يهرب الإنسان من إلحاح ضميره عليه -عند الإساءة أو الوقوع في الخطأ المهني أو المؤسسي أو التجاري- إلى التفتيش عن فتوى تريح القلب الذي يفتي بغير ذلك، وربما قصد المستفتون علماء فقه العبادات أو الحديث الشريف أو غيرهما من العلوم الفاضلة للحصول على مبتغاهم، وربما تعجل هؤلاء قبل استقراء الواقع المؤسسي، ومعرفة العرف المتبع، والممارسات الراسخة، وربما أخطأوا الهدف.

وبالرغم من أن قضيتنا اليوم تنطلق من إطار أوسع يصعب حسم الكثير من جوانبه، فما زال بوسع الدارسين والممارسين في مجالات الشريعة والأخلاق وعلوم الإدارة والاجتماع أن يسهموا في تطوير وإنضاج منظومة قيمية واقعية يمكن أن يلتقي الناس على جلها إن لم يكن كلها، تحقق المصالح الفردية والمؤسسية بقدر المستطاع.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد