"اكتشفت في ذلك الحين أن الناس جميعاً يرغبون في أن تروى لهم قصص، وأنهم يريدون الخروج لحظات من الواقع والعيش في تلك العوالم الخيالية التي تقدمها الأفلام والتمثيليات الإذاعية والروايات، بل إنهم يرغبون في أن تُروى لهم أكاذيب، على أن تُروى لهم تلك الأكاذيب بصورة جيدة".
يقول جورج أورويل في كتابه "لماذا أكتب": عندما أجلس لكتابة كتاب، لا أقول لنفسي سوف أنتج عملاً فنياً أكتبه؛ لأن هناك كذبة أريد فضحها، حقيقة أريد إلقاء الضوء عليها، أما الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي فقالت إن زوج أمها كان يلقبها بـ"حكّاءة الأكاذيب"؛ لأنها كانت تروي قصصاً من خيالها المولع بكل ما هو ساحر وأخّاذ، ويستولي على عقول الناس بلهفة.
أما الياباني هاروكي موراكامي فيقول: "لا أحد يتهم الروائي بالكذب وليس ثمة من يقول إن روائياً ارتكب عملاً غير أخلاقي في روايته حين افترى على بطل من أبطال الرواية، بل على العكس كلما كبرت أكاذيب الروائي وأبدع في اختلاق أكاذيبه على الأرجح سوف يلقى إشادات لا حصر لها من الجمهور بشكل عام ومن النقاد؛ لأنه حوّل الكذب إلى مهارة".
ولكن ماريّا في رواية "راوية الأفلام" لإيرنان ليتلير لا تروي الأكاذيب، إنها تروي حكاية وجع وألم حقيقي لأناس يعيشون البؤس في بقعة جغرافيّة بعيدة، إنها تروي حكاية الاضطهاد والفقر والصراع الطبقي، حكاية الظلم والديكتاتوريات، حكاية زمن ثورات التحرّر الإنسانيّ، إنها تحكي عن الحوادث السياسية المهمة التي وقعت لبلادها، فهي تذكر وصول سلفادور الليندي إلى السلطة، ومرور فيدل كاسترو ذات يوم من الشارع الرئيسي للمعسكر، ثم تذكر انقلاب الجنرال بينوشيه، كما تذكر وصول الإنسان إلى القمر وظهور الهيبز.
يهدي المؤلف روايته لصديق له؛ لأنه كان له ابن عم راوي أفلام.. نحن إذن أمام الحادثة الواقعية التي استندت لها الرواية أو البذرة الأولى التي عمل المؤلف عليها حتى أصبحت لدينا هذه الرواية.
وهذه البذرة مهمة؛ لأنها لحظة تَخَلُّق العمل بداخل صاحبه، وهذه البذرة تكون من أرض الواقع، ثم يأتي دور الخيال الإنساني خيال الروائي حتى يجعل منها كوناً روائياً متكاملاً.
العنوان لافت وفكرة الرواية عبقرية ومبتكرة كان ينقصها بعض التعمق في التفاصيل، كم تمنيت لو تعمَّق الكاتب أكثر؛ لأن القصة تحتمل الكثير والمادة الخام لم أتوقع أن تنتهي بهذه البساطة، لكنه آثر أن يوجز، الرواية رائعة بكل ما في الكلمة من معنى، أسلوبه رائع وسلس يشد القارئ، ولن أتحدث عن الترجمة فالمفترض أننا تخطينا هذه المرحلة مع صالح علماني، كل ذلك جعل الرواية مشوقة وأعطتها بساطةً وعمقاً كبيراً.
تدور الرواية في إحدى قرى تشيلي الفقيرة، التي يعمل أهلها باستخراج الملح من مناجم وسط الصحراء، في بيت من الصفيح، وفي حالة من الفقر المدقع تعيش بطلة الرواية وهي الابنة الخامسة لوالديها، بعد أربعة من الذكور اختار لهم الأب أسماء تبدأ بحرف الميم، وبسبب هوسه بالسينما، سمّاها والدها ماريا مارغريتا، بعدما رفضت زوجته أن يسميّها مارلين تيمناً بمارلين مونرو، في إشارة من المؤلف لمستقبل مؤلم ينتظر أبطال الرواية، يتعرّض الأب لحادث يصيبه بالشلل، ويجعله عاجزاً عن الحركة، فيخسر زوجته، التي اختارت الرحيل، سعياً خلف طموح لطالما اعتمل داخلها؛ لتترك زوجها وحيداً مع أبنائه، ومدمناً للكحول، بعدما بات عاجزاً عن ارتياد السينما، وبالتالي فقد متعة حياته.
كانت موهبة ماريا استثنائية، ليس فقط في رواية الأفلام، إنما في قدرتها على التخيل وابتكار القصص، فتمكنت من اجتياز المسابقة مع إخوتها، وتفوقت عليهم، مبدية قدرات استثنائيّة في ذلك، تجعل الأب يؤكّد أن ما ترويه ابنته يغدو أجمل من الفيلم ذاته، تتحوّل ابنة الأعوام العشرة إلى راوية للأفلام، التي يدّخر الأب المال من أجر تقاعده الضئيل؛ لتتمكن ابنته من مشاهدتها وإعادة روايتها أمامه.
غير أن الموهبة التي تبديها الطفلة في ذلك، تثير إعجاب سكّان المعسكر برمّته، لتتحوّل إلى راوية أفلام حقيقيّة، ولا تتوقف حالة الإعجاب بتفوّق ماريا في رواية الأفلام داخل الأسرة، بل يذيع صيتها في القرية، وتصبح ماريا راوية الأفلام ليس لأسرتها فحسب بل لكل البامبا.
لكن الأمر لا يستمر بهذه السلاسة، بل يتحرش مرابي القرية "دون نولايكو" بماريا، والأخيرة تخبر أخاها الكبير.
ولا يمر كثير من الوقت حتى يعثر على الرجل المكروه مقتولاً، وتظلّ هوية القاتل مجهولاً إلى أن يتبجّح مع رفقائه وهو سكران بأنه قاتل المرابي، ومما يعمق من البعد التراجيدي في هذا الحدث هو انفراط عقد الأسرة بعد موت الأب أثناء إصغائه لابنته، كما أن ظهور الآلة الجديدة "التليفزيون" تسحب كل الأضواء وينتهي دور الراوية.
يكتب التشيلي إيرنان ليتلير بأسلوب سرد ممتع وعفوي ومتدفق، فينمي ملكة الخيال بطريقة مذهلة لدى القارئ، تجعله يُحلّق عالياً مع سطور هذا الكتاب الصغير.
إنها رواية تتأرجح بين الخيال والحقيقة بطريقة مميزة وعفوية، فتجعل القارئ مأخوذاً بسحرها، إنه السحر الذي نتحدث عنه كلما قرأنا شيئاً يحمل اسماً لاتينياً.. كيف تتحول الحياة الجميلة إلى مأساة؟!
كيف تنتهي أجمل اللحظات لتخلق نهاية مأساوية، هكذا أنهيت الرواية البسيطة في اللغة والسرد العميقة في معناها، رواية صغيرة الحجم.. تقع في نحو 109 صفحات من القطع الصغير، فالعبرة ليست بعدد الصفحات، العبرة بكيفية اختصار أكبر الأفكار بجمل بسيطة.. كيف تحكي عن علاقتها بأمها من أجمل ما قرأت في علاقة الأم والبنت تلك العلاقة الغريبة والمستعصية، وإذا بحثت عن سرّ هذا العمل فلا تجد غير وضوحه وبساطته والابتعاد من موضوعات مستهلكة، يا الله كم أنت جميل أيها الأدب اللاتيني!
أعجبنى كثيراً الغلاف وصورة الفتاة التي عليه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.