حال الحياة في حلب الشام أضحى مثل ظلام وارف، يكاد ليلها الحالك لا ينجلي عن سمائها، ولا يرفع عنها الخوف قبضته الذي أطبق الأنفاس من أهوال ما تقذفه القاذفات، وطائرات النظام مما يثقل وزنه، ويرخص سعره من القنابل الحارقة، والغازات الخانقة التي تسقط تباعاً، وتصب حممها فوق الرؤوس والبيوت.
فيما يخيم شبح الجوع في هذا الوقت على التلال الشرقية من البلدة، ومن كل الاتجاهات يزحف إليها ببطء نحو أهلها الخاضعين جميعهم لعقاب جماعي، لا يستثني منه أحداً، حتى الحيوان يعاني مثل الإنسان في هذه الأثناء، من حصار ظالم تفرضه قوات النظام منذ شهور عدة.
وقد طال أمده، وتمادى فيه عضده الروسي في صفاقة وإجرام بارتكاب أبشع المجازر الجماعية والدموية بالسلاح الفسفوري المحرم دوليا، الذي ازدادت ضراوته أخيراً فاتكاً بكل الكائنات الحية التي تقطن الأحياء الشرقية من حلب، حتى أصبحت المأساة على الأرض تنذر بالكارثة الإنسانية غير المسبوقة، ما عزز من حالة التشاؤم عند المحللين، والمعلقين السياسيين، من فظاعة ما رأوه من القتل الممنهج، وبشاعة الانتهاكات الحقوقية في المدن السورية، ومن الدبلوماسية العرجاء التي ساعدت في إطالة أمد العدوان الهمجي، وتواصل الغارات والقصف على الأهالي.
لقد أظهرت مناظر أشلاء القتلى الغارقة في الدم، والجثث التي تحت ركام المباني المدمرة دموية وجبروت القاتل وتمتعه بالحصانة في سفك المزيد من الدماء دون أن يردعه أحد أو يمنعه، حتى غدت مشاهد الدمار والقتل وجبة إعلامية يومية اعتاد عليها مراسلو القنوات الفضائية على تقديمها للمشاهدين في نشراتهم الإخبارية.
لم يعد هناك أي خط أحمر قائم أمام جنود النظام في هذه الحرب الإبادية، فالجميع مستهدف بالقتل، بما في ذلك قوافل الإغاثة الدولية، ورجال الإنقاذ والمسعفون، وما بدا واضحاً عليه هو الدمار الشامل في كل الأحياء والأبنية السكنية، مما يزيد من حجم المعاناة للأهالي، إضافة إلى ذلك الوضع المأساوي في المشافي والدفاع المدني، وعجزهم من أداء مهامهم الإنسانية في إنقاذ وعلاج المزيد من الحالات المصابة والحرجة، أو توفير الأساسيات الطبية لهم بسبب أزمة النقص الحادة في الأدوية والمعدات.
حلب الشام التي تباد أمام مرأى ومسمع من العالم المتحضر، هي حالة عربية سُنية من الألم تئن، ومن الجور تحمل أطفالها في مواكب الجنائز، تؤجج الجراح داخل البيت السني الذي يعاني في الأصل من أوجاع كثيرة، ومن تكالب الظروف والأعداء، وهو ما كشفته شيئاً فشيئاً مرارة الأحداث في سوريا عن مقدار الخلل الأخلاقي في الضمير العالمي الذي لم تعُد تلك الأفعال الإجرامية تجذب انتباهه، ولا المجتمع الدولي قادر على الردع، ولأول مرة يقف حائراً في هذه الأزمة، وعاجزاً بالدفاع عن الحقوق الإنسانية المنتهكة في عموم سوريا، وحلب خاصة.
فلم نجده ينتفض لحماية الإنسان هناك من بطش النظام المجرم، وعبث الميليشيات الإيرانية الطائفية في ممتلكات وأرواح أهل السنة، وإن كان قد لوح صراحة بتوجيه أشد عبارات الاستنكار واللوم لروسيا وإيران في دخولهما في هذه الحرب، واشتراكهما مع النظام السوري في جرائم الحرب ضد الشعب السوري.
لكن يبقى هذا الموقف الدولي المتخاذل أقل وطأة من موقف ذوي القربى الذي هو أشد مضاضة، والذي جاء في حالة الصمت الرهيب والمريب لجامعة الدول العربية وأعضائها من هذه المحنة الإنسانية، والإبادة العرقية.
وأثناء ما يتردد في إذاعات النظام السوري من اقتراب ساعة الصفر للمعركة الكبرى في اقتحام مدينة حلب بالقوة العسكرية الأسدية، تدعمها العصابات الشيعية، والطائرات الروسية من السماء لتحريرها من المقاومين الثوار يكون العالم قد بدا يمسك أنفاسه مرة أخرى من رعب تكرار ما سوف تحمله التقارير المصورة للمذابح المتوقعة؛ لعلمه من واقع التجربة بأساليب التعذيب، والتنكيل الذي ينتهجها النظام مع خصومه من الثوار، وحتى السكان.
ولديه هوس في ارتكاب المذابح الجماعية، فيما أميركا تارة تلوّح بالضربة العسكرية ثم تعاود تارة الاجتماع بالحلفاء لامتصاص ردات الفعل على تخاذلها، إلا أنها في الوقت الحاضر قد تحتاج إلى التراجع إلى الوراء، والانشغال بشؤونها الداخلية لتجدها فرصة للانصراف بعيداً عن سخونة المعركة وتبعاتها بمتابعة انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة، بعد أن فشلت مراراً في إقناع النظام السوري بالتزام الهدنة، والانتقال لطاولة الحوار، من أجل إتمام عملية السلام.
لكنها أمام تدخلات الدبلوماسية الروسية تقف عاجزة، وقد تظهر خاضعة بعد الانتخابات لتنفيذ مطالب وشروط روسيا أولاً التي هي بالأصل من يتحكم بالنظام السوري وقراره، ما يعني أن أميركا على ما يبدو ليس لديها خيارات أخرى سوى مجاراة روسيا والنظام للبقاء قريباً من الأزمة السورية، وممارسة المفاوضات المستمرة مع جميع الأطراف المتنازعة.
كل ما يخشاه أهل السنة أن يبقى الحال كما هو عليه الآن، وأن يكتفي العالم بمشاهدة السيناريو المتوقع لحرق حلب الشام، ومن بقي فيها من النساء والأطفال، ثم تبقى بعد ذلك في ذمة الله، وفي ذمة التاريخ من بعد، ولن تبدأ عملية التنفيذ الفعلي للسلام إلا بعد أن يرحل آخر سني من أرض الشام.
عندها تكون قد تحققت فصول المؤامرة، واللعبة السياسية القذرة بإتمام مشهد السيطرة المطلقة لبلاد الشام والعراق ولبنان للمد الشيعي، وإخضاعها للحكم الفارسي الملالي في إيران، ويصبح الهلال الشيعي واقعاً للعيان فوق الأرض العربية، عائداً للظهور من الشمال الشرقي، يهدد تارة جزيرة العرب، وتارة أخرى يقف سداً منيعاً أمام الجهاد الإسلامي السلفي، ولاعباً دور شرطي المنطقة لدولة إسرائيل، أما نحن سوف نكتفي برفع أكفنا إلى السماء نبتهل لرب السماء -عز وجل- أن يرحم الشهداء في سوريا والعراق، وأن يغفر لنا لحظات ضعفنا وعجزنا في مساعدتهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.