فاروق شوشة.. وخدم السلطة

لقد وصف شوشة هؤلاء المنافقين في قصيدته القديمة الجديدة بأنهم خدم السلطة وعبيدها، وإن تصنعوا غير ذلك، ولك أن تطالع بعض كلمات هذه القصيدة التي يقول فيها: خدم.. خدم وإن تبهنسوا وصعروا الخدود كلما مشوا وغلظوا الصوت فزلزلوا الأرض وطرقعوا القدم خدم.. خدم وإن تباهوا أنهم أهل الكتاب والقلم وأنهم في حلكة الليل البهيم صانعو النور وكاشفو الظلم

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/18 الساعة 07:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/18 الساعة 07:18 بتوقيت غرينتش

منذ أيام، رحل عنا الإعلامي الكبير، والإذاعي القديم، الشاعر الأديب فاروق شوشة، رئيس الإذاعة المصرية الأسبق، وأمين عام مجمع اللغة العربية، نسأل الله له الرحمة والمغفرة.

لقد سعدت بالتواصل المباشر مع الفقيد الكبير عام 1979، عندما كنت طالباً بكلية الإعلام، جامعة القاهرة، وكان الفقيد الكبير يدرس لطلاب قسم الإذاعة والتليفزيون، وكنت أنا طالباً بقسم الصحافة، ومع ذلك حرصت على حضور بعض محاضراته للاستفادة من أسلوبه الإذاعي الراقي.

لكن صلتي بفاروق شوشة تعود إلى مراحل مبكرة من حياتي، وإن كانت عبر أثير إذاعة البرنامج العام؛ حيث تأثرت بأسلوبه اللغوي عندما كنت أدير الإذاعة المدرسية في المرحلة الثانوية منتصف السبعينيات، وكنت دائماً أحرص على الاستماع إلى برنامجه: "لغتنا الجميلة" الذي يذاع كل ليلة قبل نشرة الأخبار الأخيرة، التي كان "البرنامج العام" يقدمها في الحادية عشرة من مساء كل يوم.

بصوته الرقيق العذب، ومخارج حروفه السليمة، واختياراته اللغوية الرقيقة، كنا نعيش كل ليلة مع إضافة لغوية راقية، وبإلقائه الممتع الهادئ كان يبث برنامجه، وكأني به بمثابة جرعة مهدئة بعد رحلة يوم طويل من النشاط والمذاكرة، لأستسلم بعدها للنوم.

حافظ شوشة على وقاره واحترامه، ولم يكن بوقاً لأي نظام، رغم عمله مع كل الأنظمة من عبدالناصر إلى السادات فمبارك، ثم أخيراً النظام الانقلابي، وكان دائماً ينأى بنفسه عن أن يكون مخلباً لنظام يستخدم ضد معارضيه.

ورغم عمله بالإذاعة والتليفزيون لخمسة وخمسين عاماً، فإنه حافظ على تلك المسافة بينه وبين ممالأة السلطة، تلك الصفة التي تلازم الأغلبية العظمى من الإعلاميين اليوم؛ حيث حصر نفسه في النشاط الثقافي والأدبي وانغمس فيه، وجعله له سياجاً من الانجراف مع كتائب النفاق للسلطان وترويج أكاذيبه.

لعل أهم أدوار فاروق شوشة الحياتية هي حراسته للغة القرآن، وتقريبها للمستمعين والمشاهدين، وحثهم على الفخر بها دون غيرها من اللغات.

حرص دائماً على الحديث بالفصحى، ونقل هذا الحرص لآلاف الإعلاميين على امتداد الوطن العربي وليس مصر وحدها؛ إذ إنه لم يكن إذاعياً وأديباً وشاعراً فقط، بل كان أستاذاً لدارسي الإعلام في جامعة القاهرة والجامعة الأميركية، كما كان مدرباً للإذاعيين في معهد التدريب التابع لاتحاد الإذاعة والتليفزيون، وكانت له زياراته التدريبية للعديد من أبناء الإذاعات العربية، ينقل إليهم تجربته وخبرته، ويوجههم إلى الحديث بالفصحى السليمة في زمن امتهنت فيه اللغة، وقدم عليها لغات العالم، وأصبح استخدام أبناء العرب لمفردات من غير لغتهم علامة ثقافة وتنوير، أما من يتحدث الفصحى فجزاؤه الضحك والسخرية من مستمعيه.

تصدى -رحمه الله- للنخب الإعلامية والثقافية التي لا تقوم بدورها الرسالي، واكتفت بتسويق سياسات الأنظمة وتجميلها للشعوب المقهورة، ووصفهم بخدم الحكام.

منذ عشر سنوات كتب قصيدة عن هؤلاء الإعلاميين والمثقفين، أثناء حكم مبارك، وأعاد قراءتها العام الماضي في أمسية شعرية بإمارة الشارقة فأحدثت أصداء واسعة، وتعرض بسببها لهجوم كبير من الميليشيات التي تتصدر المشهد الإعلامي والثقافي في مصر الانقلاب.

عندما كتب قصيدته: "خدم.. خدم" في عهد مبارك لم تنَل عُشر معشار هذا الكم من الهجوم والتطاول الذي تعرض له شوشة في عهد الانقلاب العسكري، وربما يشير ذلك إلى طبيعة المرحلة التي يديرها العسكر اليوم، ويتربع على منصات الإعلام والثقافة فيها مجموعة من المنافقين الجهلة الذين لا يتقنون إلا الكذب والتشويه والسباب لمعارضي الانقلاب، بل لكل من ينادي بالحرية والإصلاح والارتقاء بالأداء الإعلامي.

لقد وصف شوشة هؤلاء المنافقين في قصيدته القديمة الجديدة بأنهم خدم السلطة وعبيدها، وإن تصنعوا غير ذلك، ولك أن تطالع بعض كلمات هذه القصيدة التي يقول فيها:

خدم.. خدم

وإن تبهنسوا وصعروا الخدود كلما مشوا

وغلظوا الصوت فزلزلوا الأرض وطرقعوا القدم

خدم.. خدم

وإن تباهوا أنهم أهل الكتاب والقلم

وأنهم في حلكة الليل البهيم صانعو النور وكاشفو الظلم

إن المتابع لمنابر الإعلام والثقافة في مصر اليوم يستطيع أن يسقط معاني قصيدة شوشة على الجميع باستثناء آحاد الشرفاء الذين يمشون على الشوك، وينتقون الكلمات بعد قسم بعضهم بأغلظ الأيمان أنهم لا يقصدون بها قائد الانقلاب وعصابته، أو يقبض بعضهم على أقلامهم بأيد مرتعشة تعرف أن المنع هو مصير من ينطق بالحق أو يسطره، ولهم العظة والعبرة في بعض زملائهم الذين سجنوا أو فصلوا أو طردوا، أو أجبروا على الجلوس في منازلهم، أو هجروا خارج مصر، أفلا يكونوا من أولي الألباب؟!

لقد امتلأت سجون الانقلاب بعشرات الآلاف من أهل الفكر والرأي المطالبين بالحرية والعيش الكريم، بينهم ما يربو على المائة صحفي وإعلامي.
وأغلقت صحف ومجلات، وفضائيات وبرامج، تهمتها الوحيدة معارضة الانقلاب، ورفض عسكرة الوطن.

وتصدر حفنة من الجهال والمنافقين في كل الفضائيات والإذاعات والصحف، كل بضاعتهم التملق والإسفاف والهجوم على شرفاء الوطن، رضوا كل يوم أن يتلقوا الأوامر والتعليمات من الأجهزة الأمنية، أو من ذلك الجنرال القابع بمكتب قائد الانقلاب الذي يستخدمهم كالعبيد، فإذا بهم يعزفون على وتر واحد كل ليلة، همهم التبرير، وتسويق البهتان، وتخدير الشعب المقهور، وصرفه عن التفكير في الغلاء الذي يكويه، والرضا بحياة الذل والقمع التي يعيشها، والتسبيح بحمد الانقلاب الذي أنقذ مصر من الفوضى، ويتصدى للحرب على الإرهاب المزعوم؛ لذا فكل مطالب الإصلاح مؤجلة؛ حيث لا صوت يعلو فوق صوت معركة الإرهاب التي صنعها الانقلاب.

هذه النخبة التي يتقاضى كل واحد فيها ما متوسطه مليون جنيه شهرياً، أدركت أنها مستأجرة لمهمة، إن أخلت بها أو قصرت فيها فمصيرها الحرمان في أحسن الأحوال، إن لم يكن السجن أو النفي.

لقد كان بإمكان الكثير من هؤلاء الإعلاميين والمثقفين، وأمام ما تعيشه مصر اليوم من أوضاع كارثية في مجالات الحريات العامة، والسياسة، والاقتصاد، والأمن، أن يصمتوا إن لم يقولوا الحقيقة، عملاً بالنهج الذي انتهجه فاروق شوشة.

في أحد حواراته يقول شوشة: لقد أمضيت واحداً وأربعين عاماً في الإذاعة المصرية، وثلاثين عاماً في التليفزيون المصري، وأحسست أن الإعلام كاذب في كثير مما يقول، وأن الذي جعلني مستمراً وأواصل رسالتي أنني كنت بعيداً عما يسمى بالتعليقات السياسية والأخبار الموجهة، والهجوم على الخصوم، والحملات الإعلامية التي تشنها الدولة بمناسبة وغير مناسبة، لأني كنت مهتماً بالشأن الثقافي، كما يقال، لم أدخل في هذا المجال واستمررت، لكن كنت أرى عن قرب كيف تطبخ الأشياء، وكيف يدس الأمر، وكيف تلجأ الأنظمة إلى حيل لتكذب على شعوبها!

إن ما تعيشه مصر اليوم من مآسٍ يتحمل مسؤوليتها الانقلابيون الذين سطوا على إرادة الشعب وصادروا حريته، وأهدروا مقدراته. ويشاركهم في هذه المسؤولية هؤلاء العبيد من الإعلاميين والمثقفين الذين يقومون بتوفير الغطاء اللازم لممارسات الانقلاب.

ولا أظن أنهم سيفلتون من الحساب العادل الذي أظنه قريباً، إنهم عبيد وإن ادعوا الحرية، أذلة وإن ادعوا الكرامة، هم جيفة المجتمع وإن ادعوا أنهم نخبته.

إنهم كما قال الراحل الكبير فاروق شوشة: خدم.. خدم، وإن تباهوا أنهم أهل الكتاب والقلم!

رحم الله الإعلامي الكبير فاروق شوشة، وجزاه على ما قدم للغة القرآن خير الجزاء.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد