الإنسان بطبعه ميّال للتشبّث بالحياة، فهو الذي يهتمّ بصحّته عبر ممارسة الرياضة وتناول المأكولات المعزّزة للصحة والمفيدة لكامل أعضاء الجسم، هو الذي يحارب الأمراض ويسعى لاكتشاف الأدوية، وحتى عند الإصابة بالأمراض المستعصية، يبقى يُحارب مقاوماً الداء حتى الرمق الأخير.
إذاً، ما الذي قد يدفع بالإنسان لإنهاء حياته؟ وهل من إشارات وعلامات تدلّ على قابلية للانتحار؟
الانتحار هو تسبّب الشخص عمداً بإنهاء حياته، تختلف أساليب إنهاء الحياة وتتنوّع، إلا أنها بمعظمها تتمّ عبر رمي الشخص بنفسه من مكان مرتفع أو عبر حبل يلفّه حول عنقه لقطع الأكسجين، بحسب بيانات لمنظمة الصحة العالمية، فإنّ 75% من حالات الانتحار تسجّل ما بين متوسطي الدخل وسكان الدول الفقيرة، إذاً، أحد أبرز العوامل المؤدّية لقتل النفس هو عامل اقتصادي مادّي. عالمياً، تحلّ "غايانا" المرتبة الأولى، بنسبة 44 انتحاراً بين كل 100 ألف شخص، 71% منهم رجال، كوريا تأتي في المرتبة الثانية، وسريلانكا في المرتبة الثالثة، إذا ما استثنينا كوريا الشمالية من المعادلة، فإن أسباب إنهاء الحياة هنا تبدأ بسبب اقتصادي، يليه دخول الشخص في حالة من الإحباط جراء إحساسه بالضعف والضياع دون عمل يعيله، هذا الإحباط قد يجعله يلجأ للكحول والمخدرات على أنواعها، وينتهي مشواره، ربما الانتحار.
وقد استبعدت كوريا الشمالية لأن معظم المنتحرين فيها ينهون حياتهم خوفاً من عقاب رئيس دولتهم، الذي يعدم مواطنيه غالباً لأسخف الأسباب وبأبشع الطرق، لكن، في حال كانت العوامل الاقتصادية هي السبب، لكان عدد المنتحرين أكثر بكثير، والحقيقة أنّ لدى كل شخص طاقة وقدرة على تحمّل المشكلات، بعضهم يصل لطريق مسدود ويقرّر إنهاء حياته، في حين أنّ آخرين يلجأون لحلول أخرى، بالطبع تلعب هنا عوامل كثيرة دوراً في تحديد المصير، منها، وجود عائلة، وجود دعم من الأصدقاء، والتديّن وغيرها.
وإذا ما كان الإحباط من مسببات الانتحار، وأحد حلوله الذهاب لطبيب نفسي، ففي عالمنا العربي، ما زال عيباً الذهاب لطبيب نفسي، واللجوء للمساعدة يعدّ نوعاً من الضعف. وحتى مع وجود عدد لا يُستهان به من أطباء النفس، لا يقتنع المواطن العربي بجدوى ذهابه للطبيب وعرض مشكلاته أمامه. تلك المشكلات التي على اختلافها قد تحمل دلالات وعلامات، من خلالها يمكن للطبيب معرفة درجة إحباط المواطن وما إذا كان شخصاً ميّالاً لأخذ قرار إنهاء حياته.
في لبنان، ينتحر مواطن كل 3 أيام، لبنان الذي تعدّ الحياة فيه جيدة مقارنة ببعض الدول العربية، لبنان الذي تخطى السنتين دون رئيس جمهورية، والذي يحتضن أكثر من مليون ونصف المليون نازح سوري، لكن، ما حُكم المنتحر في العالم العربي؟ وماذا يقول عنه المجتمع؟
هو الضعيفُ، قليل الإيمان، الذي لا يعرف مواجهة المشكلات، هو المنعزل الذي لا يحب ولا يريد أن يحبّه أحد، هو الكافر، الجبان، ربما كان يتعاطى المخدرات أو يتعامل مع الجن، ربما كان ملحداً، لا يؤمن بخالق ولا بمحاسبة، لا يعلم أنّه ليس حرّاً بجسده ولا مخوّلاً إنهاء حياته، هو بشعٌ، لا تجوز الرحمة عليه، أمّا عقابه، فهو حتماً جهنّم.
لكن فعلياً، ليس بالضرورة أن يكون المنتحر منعزلاً، ولا أن يكون بلا حب في حياته، وهل هو حقاً ضعيفٌ وجبان؟ لا أعتقد أنّ القفز من مبنى شاهق الارتفاع هو بالأمر السهل، ولا أعتقد أنّ الذهاب نحو المجهول هو بالأمر العادي، وهل هو كافر؟ ربما هو كافرٌ لكن الوضع الراهن هو الكفر بحد ذاته.
أليس كفراً أن يدرس المواطن ولا يجد عملاً معيلاً له، وإنّ وجد، فالنزيه لن يتقاضى أجراً منصفاً ولن يتدرّج في عمله دون تنازلات؟
أليس كفراً أن يكون الحد الأدنى للأجور أقل من ثمن إيجار غرفة في بيروت؟
أليس كفراً أن يتنشّق اللبناني رائحة النفايات المليئة بالأوبئة، وتتكدّس أكوامها في شوارع مدينته، ومع المطر، تتغلغل عصارتها إلى مياهه الجوفية، ملوّثةً مياهه، خضاره ومأكولاته؟
أليس كفراً أن يموت طفلٌ أمام باب مشفىك لأن إدارته رفضت استقباله لأسباب مادية؟
أليس كفراً احتلال الميليشيات المسلّحة لقرارات الدولة، سلطتها ومرافقها؟
أليس كفراً أنّ الطاقة الكهربائية لم تأتِ يوماً كاملاً في كل لبنان منذ أكثر من 40 عاماً؟
أليس كفراً أن يُقتل مواطنون في وضح النار على الطرقات ولا يُحاسب القتلة؟ أليس كفراً أن يضيع عمرنا، وأن يفنى شبابنا في وطن غير آبِهٍ بوضعنا، وأن تُداس كراماتنا على أبواب السفارات؟
في قرارة نفسي لا أوافق المنتحر على قراره، إلا أنني لا أكفّره ولا ألومه، لا أجلده بكلامي ولا أهنِّئه، لكلٍّ منّا طاقةٌ وقدرة تحمّلٍ، لكلٍّ منّا أوجاعٌ تسكن صدره وتعتصر مع كل نفسٍ يؤخذ، والواقع مرٌّ كما عهدناه، لا بل ويزداد مرورة يوماً بعد يوم، والحقيقة أنّ المجتمع سيبقى يكفّر شخصاً قرّر المغادرة، ولن يحرّك ساكناً حيال كفرٍ يومي يسلب العمر ويُثكل الطموح والأمل.