بدأ انقلاب تركيا يعلن عن نفسه حين أغلق القنوات الرسمية والطرق الرئيسية ومطار أتاتورك في إسطنبول وبنزول قوات عسكرية إلى الشوارع والميادين الرئيسية وشل حركتها، ومحاولة احتلال مقرات الحكم الرئيسية، كانت جميع القوى السياسية والعسكرية في صمت كامل وتوجس عدا بعض ممثلي الحكومة عبر تويتر وبيانات خطية.
حسم الأمر مكالمة Facetime أجراها أردوغان لقناة CNN Turk دون النظر لماهية القناة أو شكل المكالمة غير الموافق للبيانات الرسمية للرؤساء. كانت المكالمة إعلاناً كافياً بالصوت والصورة لثلاث رسائل بغض النظر عن مضمون الخطاب ذاته: الرئيس حيٌّ آمن، الرئيس حرٌّ طليق، الرئيس لن يستسلم.
كان ذلك كفيلًا بإعلان أن الانقلاب لم ينجح – وهو إعلان لا يعني فشله بالضرورة – ما قدم لجميع الأطراف في تركيا رسالة واضحة أن حسم الأمور بأيديهم.
كان للشعب التركي الخيار في أن يقبل هذا الانقلاب ويعيش مآسيه القديمة مجددًا أو لا، وكان للقوى المدنية أن تقبل انقلابًا عسكريًا على الديمقراطية التي هي جزء لا يتجزأ منها أو أن تشارك فيه وتفقد الديمقراطية بشكل نهائي، كما كان للعناصر غير المشاركة في الانقلاب من القوات العسكرية – وهو الأهم – الفرصة الكاملة في تحديد موقفهم مع وطنهم ومصلحته العليا حتى لو كان معنى ذلك تقديم رقابهم للوطن في حال نجح الانقلاب.
العصيان الشعبي لحالة حظر التجوال كان أول ثمار خطاب أردوغان عبر الهاتف، ومن ثم تعامل الشعب مع قوات الانقلاب عند المطار وطردهم منه وإخلاؤه تمامًا من سيطرتهم. تبع ذلك إعلانات رؤساء الأحزاب المعارضة على تنوعها اصطفافها مع الديمقراطية وإعلاء مصلحة تركيا ضد محاولة الانقلاب العسكري. وأخيرًا، كان إعلان الجيوش التركية الجيش الأول والبحرية وقوفها خلف مصلحة الأمة وغياب أي علاقة لها بما يحدث من محاولة الانقلاب العسكري.
هنا بدأت الكفة تميل لصالح أردوغان، وكان لإسطنبول دونًا عن غيرها الطليعة في رفض الانقلاب ومقاومته وطرده من شوارعها بأقل مواجهة مسلحة تذكر، فيما كان لأنقرة – ومازال – النصيب الأكبر من المقاومة المسلحة خاصة مع استمرار سيطرة الانقلاب على أحد المطارات العسكرية وعدم تسليمه سلاح الطيران بعد ومحاولته المستميتة إعادة توازن الكفة.
لم ينته الأمر بعد، هكذا أعلن أردوغان والرئاسة التركية، مطالباً الشعب بالتزام الميادين حتى عودة الأمور لطبيعتها، كما لم يعد أردوغان لأنقرة ومازال بين أنصاره في إسطنبول، وما لم يحدث ذلك فلم تحسم الأمور.
حتى الآن راح ضحية هذه المحاولة للانقلاب حوالي 160 شخص نصفهم من المدنين ومئات الجرحى، فيما تم اعتقال مئات من الجنود المتورطين في هذه المحاولة وتستمر الاعتقالات.
ولكن لماذا لا يوجد وجه مقارنة بين محاولة الانقلاب في تركيا وانقلاب مصر؟ لنجيب عن ذلك دعنا نعقد 3 مقارنات بسيطة.
أولًا: الرئيس في حالة مصر كان رهن الاعتقال، في حالة تركيا كان حرًا وآمنًا.
ثانيًا: الشعب في الحالة التركية كان قد عانى من 4 انقلابات عسكرية سابقة، يعلم مآلات الانقلاب، لم يتعرض لأي شحن إعلامي مسبق، ورأى الرئيس حرًا فأدرك أن مقاليد الأمور يمكن أن تعود إلى يده وأن وطنه لم يضع بعد.
بينما الشعب في الحالة المصرية لم يشهد سوى انقلاب عسكري واحد في خمسينيات القرن الماضي مازال يمجده وقائده حتى اللحظة، ورغم ضنك مآلات الانقلاب فالعقل الجمعي المصري كان يقدس جيشه، إضافة إلى ذلك تعرض الشعب المصري لشحن إعلامي مكثف لم يواجهه شيء لأشهر متوالية شوهت الرئاسة والديمقراطية الوليدة وكل ما يأتي من طرفها، وأخيرًا، رأى الجيش في الشوارع وعلى التلفاز وغاب الرئيس عن المشهد فسكن تمامًا لأن التحرك الوحيد المتاح كان تحت لواء الإخوان الذين قال التلفاز له عنهم إنهم خونة وعملاء وتجار دين ولا يحبون الوطن.
ثالثًا: إعلان الانقلاب، وهنا نتوقف قليلًا:
فشلت محاولة الانقلاب التركية في إعلان بيان رسمي للانقلاب والسيطرة على البلاد من خلال التلفزيون الرسمي، حتى أننا عرفنا اسم قائد المحاولة لاحقًا من وسائل الإعلام المؤيدة لأردوغان، وكان أقصى ما تم إعلانه هو حظر التجوال وإغلاق المطارات.
أما في مصر فقد كان إعلان الانقلاب مختصرًا لكل المشاهد، وزير الدفاع، وعلى جانبيه ممثلو القوى المدنية، السلطات الدينية، وقادة الجيوش كافة، أعلن عزل الرئيس، إيقاف العمل بالدستور، حظر التجوال، ورئيسًا للمرحلة الانتقالية وحسم الأمر.
ومن الضروري الالتفات إلى أن القوى المدنية المصرية لا وزن حقيقياً لها سوى ذلك الذي صنعه الإعلام في ذات الأشهر التي شوّه بها الديمقراطية، على عكس قوى تركيا التي تدرك وزنها في الشارع والتي فاقت في الانتخابات الأخيرة مجتمعة وزن الحزب الحاكم. كما أن القوى المدنية المصرية لم تنل من الحرية سوى عام واحد وضيعته إلى حين، بينما القوى التركية تدرك تمامًا قيمة الحرية التي تستحق دفع الحياة ثمنًا لها.
لهذا لا توجد أوجه لمقارنة حقيقية بين الأحداث الجارية في تركيا وانقلاب مصر، لكن هذا لا يعني بالمرة أن انقلاب مصر كان واجبًا لا محالة وأنه كان من الممكن الحفاظ على الديمقراطية في مصر – ولكن تلك قصة أخرى.
***
أخيرًا وحتى عودة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مقر الحكم في العاصمة أنقرة وإعلانه خلو البلاد من عناصر الانقلاب وإيذانه بإمكانية عودة الشعب إلى البيوت لانتهاء الأزمة، فمازال الأمر لم يحسم بعد. مازلت كفة أردوغان في الأرجح، وحتى الحسم، لا نملك إلا انتظار ما ستحمله لنا الساعات القادمة.
16 يوليو/تموز 2016
إسطنبول