ما إن أعلن عن انقلاب في تركيا حتى بدأت ردات الفعل تطفو بشكل خيالي على مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، لكن التفاعل الأكبر الذي كان متوقعاً هو ذاك التفاعل العربي غير المسبوق الذي لا يؤكد إلا على دور تركيا وتأثيرها في منطقتنا العربية، بغض النظر عن مزاج البعض، مؤيداً كان أو معارضاً، محباً أو حاقداً.
لكن هذا الانقلاب على الرغم من استنكار الشعوب له ورفضها لحكم العسكر، لكنه بكل صراحة وتجرد ذو فوائد جمة نحتاج للاستفادة من تبعاتها والخروج منها بإعادة النظر بالعديد من ممارساتنا على مستوى أوطاننا وأحزابنا ومؤسساتنا التي باتت كجسد مريض منهك يحتاج لدواء وعلاج تدريجي.
أثبت الشعب التركي أنه لم يعد يستطيع التخلي عن الحياة الديمقراطية والحرية غير المشروطة، وأنه غير مستعد تماماً للعودة عقوداً للوراء، ليحكمه تخلف العسكر وبنادق الضباط والجنود الذين لا يفقهون عن الحداثة والمدنية شيئاً؛ لأن هذا الشعب بعد أن ذاق طعم النهضة والتقدم وعرف معنى الحفاظ على كرامة المواطن وامتلاك حقوقه المشروعة، في حين أن معظم شعوبنا العربية لم تستطِع التحرر من لوثات تمجيد الحذاء العسكري والانحناء أمام جنازير الدبابات التي غطتها دماء كل من سوَّلت له نفسه الخروج للمطالبة بالحقوق.
اليوم لم يحافظ الشعب التركي فقط على رموزه المنتخبة وشرعيته الدستورية وصوته المدوي في صناديق الاقتراع، لكنه حافظ بالوقت نفسه على الاقتصاد والخدمات من مواصلات وطبابة وتعليم ورفاهية وسياحة وتجارة، بعد عقود من الحرمان وسوء الاقتصاد وإفلاس الدولة وتضخم العملة وتراجع البحث العلمي والديون المتراكمة، لكن في الوقت نفسه لم تستطِع معظم دولنا العربية بسبب أنظمة الفساد والسمسرات والتوريث والتخلف وسرقة الثروات الظاهرة والباطنة تحقيق حد أدنى من الخدمات لشعوبها، وما زالت شعوبنا تفرح بمشاريع سخيفة يضحك بها عليهم حكامهم فيزداد البعض في تمجيد سيده بدراهم بخس حقيرة.
أما على مستوى الأحزاب، فقد أثبت حزب العدالة والتنمية أنه متجذر في ضمير مَن يؤيده في جهوزيته التامة وأنصاره من التحرك السريع الممنهج في مواجهة الانقلاب العسكري وصد قوات العسكر دون خوف أو تراجع، في حين أن أحزابنا العربية والإسلامية على وجه الخصوص تثبت كل يوم فشلها في تمثيل ضمير الشعوب، وتحقيق طموحات الناس التي كانت ولا تزال تعول على تلك الأحزاب، على الرغم من فشلها الذريع والمستمر وتأخرها عن ركب التجديد والحداثة وبقائها في عقلية الماضي وأمجاده التي لن تعود إلا بعد توحيد الفكر مع العمل.
أما الفائدة الأهم التي يجب أن تدفعنا للوقوف عندها هي سقوط أقنعة بعض دعاة الحرية والديمقراطية والحضارة والذين قرعوا رؤوسنا طيلة السنوات الماضية بشعارات المدنية والحداثة ومواكبة الغرب في وضع قوانين تحافظ على الحياة السياسية بعيداً عن الديكتاتوريات والاستبداد، لكنهم رسبوا في امتحان تركيا التي جعلتهم يطلقون العنان لكراهيتهم وطائفيتهم البغيضة حتى لو لبسوا البدلات وجلسوا في صالونات السياسة وحملوا كتب الفكر والحضارة وبناء الدول والمجتمعات، إنه الدرس الأكبر لشعوبنا الغافلة طيلة السنوات الماضية في عدم الانخداع بالمظاهر والشعارات والأشخاص، فبعض الذين لبسوا ثوب الوطن انخلعوا منه عند أول منعطف، وانقلابيو تركيا الفاشلون أكبر دليل على ذلك.
الانقلاب في تركيا ذو فوائد لا تعد ولا تحصى إذا قررنا وضع المجهر على واقعنا المأزوم، ودروس كبيرة في التعاطي مع الأزمات ووضع حلول جذرية لها في ظل الحال العربي المتردي الذي يدعونا وبسرعة فائقة لإعلان حالة الطوارئ على صعيد وعي شعوبنا للحقيقة، ومشاركتها في تغيير الواقع والسير نحو صنعها لتجاربها الرائدة، بدلاً من تغنيها المستمر بإنجازات الآخرين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.