صرخة على هامش الحرب

مرير هو الشعور الذي ينتابك وأنت ترقد إلى جوار ابنك الكبير عندما يكون قد فارق الحياة، أية كلمات تسعفك في هذه اللحظات الرهيبة؟ وأية ذكريات تجتاحك في هذه الليلة الظلماء؟ وأي شعور نبيل؟

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/21 الساعة 02:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/21 الساعة 02:38 بتوقيت غرينتش

ملامح وجهه الحزينة والتجاعيد التي رسمتها السنون عليه تعطيه تقديراً يزيد على عمره بسنوات، معاناة طويلة كابدها أبو خالد طوال حياته، فلم يكَد يبدأ عمله مع قوات الأمن قبل 25 عاماً حتى أصابته طلقة طائشة من أحد المهربين في عموده الفقري كانت كفيلة أن تلزمه الفراش وتبدأ رحلة الشقاء..
يتنهد قليلاً.. ثم يقول: حزينة، مريرة وكم هي متعبة هذه الأيام!

يعتدل على فراشه ويمد كلتا يديه إلى إحدى رجليه المشلولتين ويسحبها إليه وكذلك فعل مع الثانية، ثم مدّ يده إلى كيس الدخان وراح يدرج سيجارته وهو صامت، ثم يقضم حوافها بما تبقى له من أسنان، بعد أن بلّل أطرافها ونفث سحبته الأولى ليرسل سحابة من الدخان الكثيف، عاد إليه بعضه عن طريق أنفه وتعانق مع مدخنة الحطب غيمة راحت تبحث عن المدخنة.

يقول بصوت خافت: خرجت من المنزل ثلاث مرات بعد أن أصبت بالشلل، ذات مساء رمادي جاء إليَّ عدد من أطفال الحارة مهرولين خائفين ينقلون إليَّ خبراً أن حفيدي أصيب بحجر على رأسه، وقد أُسعف إلى المشفى، وما هي إلا ساعات قليلة حتى وضعوه أمامي جثة هامدة.

حسن يا حبيبي، أنت وحيد أبيك.. لمَ يا بني؟ كيف تركت أباك يا حسن على جبهات القتال دون أن تودعه؟

طلبت من الجميع الخروج من الغرفة بعد أن وضعوا له فراشاً إلى جانبي وتغطيت معه بغطاء واحد حتى الصباح لأحمل معه إلى المقبرة، ذلك كان خروجي الأول.

ولم تمضِ أيام قليلة حتى جاءني من يحمل والد حسن وهو مقطوع الرجلين، نتيجة قذيفة أثناء الهجوم على أحد الحواجز، ولك أن تتخيل شعوري وأنا أرى ابني البكر مقعداً إلى جانبي كحالي، لم أستطع احتمال سماع أنينه، وطلبت منهم وضعه في غرفة بعيدة، وقلت في نفسي: الشر بعضه أهون من بعض.

حملوني إليه ذات مرة، رأيت الدموع في عينيه، قلت له: كنت أظن أني قد خلفت رجالاً، فيرد عليَّ: لا يا أبي، ليس كما تظن، ولكن أليس من المبكر خروجي من المعركة؟

قلت: ذلك قدر الله يا بني، وهو طريق اخترناه بملء إرادتنا ولن نتركه.

ساءت حالته واشتد صريخه وحملوه إلى المشفى بعد أن أسدلوا الستارة كي لا أراه، بعد ساعات وفي المساء أيضاً عادوا ليسجّوه أمام ناظري، طلبت له فراش ابنه الراحل وغطاءه، كما طلبت تركي وحيداً مع ابني تلك الليلة.

مرير هو الشعور الذي ينتابك وأنت ترقد إلى جوار ابنك الكبير عندما يكون قد فارق الحياة، أية كلمات تسعفك في هذه اللحظات الرهيبة؟ وأية ذكريات تجتاحك في هذه الليلة الظلماء؟ وأي شعور نبيل؟

هل أذكر أيام طفولته وهو يتعثر في خطاه الأولى، وأنا أحضر له السكاكر والألعاب التي يحب؟ أم أيام ذهابه الأول إلى المدرسة وبعد أن أدخلته الصف رأيت الدموع في عينيه وكأنه يتوسل إليَّ أن لا أتركه، الأمر الذي دعاني إلى العودة سريعاً إليه لأضمه إلى صدري وأعيده ذاك اليوم إلى البيت؟
أم يوم زفافه وقد حملوني معه على الأكتاف، فرحت كثيراً يومها، وقد أصبح هناك رجال يحملون عني بعض أعباء الحياة.

مشاعر كثيرة عشتها تلك الليلة قبل أن يقطعها النداء الخالد: الله أكبر.. الله أكبر، معلناً بزوغ يومٍ جديد.

في الصباح حملوني معه إلى المقبرة في خروجي الثاني!وبعد شهور قليلة، وفي الهجوم الأخير على أحد حواجز قوات النظام في المنطقة جاء من يقول إن ولدي الثاني وهو الأصغر أصيب بشظية فقد نظره على أثرها، وقد أسعفوه إلى تركيا.

قلت في نفسي: الحمد لله، العمى أهون من الموت، ولكن القدر كان له رأي آخر؛ إذ بعد أيام قليلة جاءوا به مساءً وسجّوه أمامي جثةً هامدة!طلبت له فراش أخيه وغطاءه وتركوني مع ابني هذه الليلة أيضاً.

نظرت إلى وجهه، كيف أتت هذه الشظية من أعماق روسيا وتركت كل وجهه واستقرت في عينه؟ لا.. لا اعتراض على حكمك يا رب.

وضعته أمامي وضممته وقلت له: لمَ العجلة يا بني؟ كنت أمني النفس أن أراك عريساً، أن أرى أبناءك حولي، أن تملأ الفراغ الذي تركه أخوك، الحياة كانت أمامك يا بني، لمَ اخترت الرحيل؟

تمالكت نفسي قليلاً، وقلت: بلى يا بني، إنها بلدنا، أرضنا، تاريخنا، يستحق منا. ذلك قرارنا، وذلك أمر الله.. في الصباح حملوني معه إلى المقبرة، ذلك كان خروجي الثالث!

حتى ولدي الوحيد الذي بقي على قيد الحياة لم يحتمل فقد أخويه وموت عددٍ من أصحابه، وراح يمضي جلّ وقته في تقليب الصور ومقاطع الفيديو التي تحكي ماضيهم، ثم يقول: كانت لهم ذكرى ويا لها من ذكرى تاركاً هموم عائلته على عاتقي أيضاً.

عشرة أطفال دون العاشرة يجلسون حولي، وأنا العاجز المشلول، تسألني نظراتهم بعد أن عجزوا عن الكلام: نريد أن نحيا، أن نعيش كباقي أطفال الناس.

أبو خالد هو رجل سوري من قرية وادعة بالقرب من ريف إدلب الجنوبي، التي تعرضت لعشرات القذائف من معسكرات قوات النظام في المنطقة، وما زال أبناؤها يبذلون دماءهم من أجل استرداد حريتهم وكرامتهم رغم الخسائر البشرية والمادية التي تعرض لها السكان جراء القصف.

حالة "أبو خالد" ليست الأولى، فهناك أصبح المئات يتقاسمون المعاناة مع "أبو خالد" بعد مرور 5 سنوات ونيف على الحرب الدائرة في سوريا، وما زال النزيف البشري جراء القصف الجوي والمدفعي مستمراً دون وجود أحد يوقفه.

يختم أبو خالد: كم أتمنى أن يكون خروجي القادم دون عودة.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد