"ليس الفوزُ أن أتمكن من الوقوف كما يفعل باقي البشر.. الفوز الحقيقي هو أن أدرك أنني لا أفعلُ هذا بفضل نفسي؛ بل بقدرة الله!".
بنور هذه الكلمات التي تُنقش بماء الذهب، والتي اعتاد الشاب الأسترالي (الصربي الأصل) الملِهم لسكان الأرض "نيكولاس جيمس فوجيتشيش"، أن يلقيها في محاضراته.
احتشدَ عشراتُ الآلاف من النَّاس في ميدان "الاستقلال" بالعاصمة الأوكرانية (كييف)؛ ليستمعوا إلى محاضرة نيكولاس، الذي وُلد في عام 1982 بمرض نادر جداً يدعى متلازمة "تيترا-أميليا-tetra-amelia syndrome" التي تعني ولادته دون أيٍ من أطرافه الأربعة!
كنتُ قد شاهدتُ الإعلانات عن هذه المحاضرة المجانية قبلها بيومين فقط، وعلمتُ عندها أني لن أحظَى بحظِّ حضور ذلك الحدث الاستثنائي؛ لارتباطي ببعض الأعمال التي كنتُ قد رتبتُها سلفاً ولم يكن بمقدوري الفكاك منها.
فقررتُ أن أكتبَ عنه، ربما كان في ذلك بعض العزاء لنفسي عن عدم تمكني من مشاهدة ذلك الشخص الفريد بأم عيني، وإن كنتُ قد رأيت له عشرات التسجيلات على "يوتيوب" من قبلُ، لكنّ المعاينةَ شأنٌ آخر!
تصوَّر..!
تصوَّر مدى سعادتك وزوجتُكَ تخبرُكَ بأنّ الله قد أرسلَ ملكَين لنفخِ روحٍ جديدةٍ في رحِمِها، ثم تصوَّر كيف يمكن أن تتحول تلك السعادةُ إلى شقاءٍ مُطْبِق وحُزْنٍ مُطْلَق، حين يخبرك الطبيبُ بأن ذلك الجنين الموعود، سوف يولَدُ جسداً بغير أطراف!
ثم تصوّر كمَّ المعاناة التي يمكن أن يلقاها طفلُكَ هذا في سنِيْ إدراكه الأولى، وهو يرى نفسَهُ عاجزاً -لا عن الحركة فحسب- بل عن ممارسة ما نراه نحن البشر أموراً اعتيادية مألوفة نفعلها يومياً بطريقة تلقائية تماماً، ونحن لا ندركُ حقيقة النِّعَم التي وهبنا إياها الخالق سبحانه وتعالى.
فأنا وأنت ننهض صباحاً من نومنا بمشقة، ثم نمضي في كسلٍ نحو الحمام؛ ومن ثم نتهادى متثاقلين إلى المطبخ لتناول الفطور، ثم نتجهز بعدها للخروج إلى العمل-الجامعة-المدرسة-النادي، وبعد يومٍ تتعاقبُ علينا خطوبُه وتتعاهدُنا أحداثُه.. نعودُ مرهَقين لنمارس ما تبقى من أنشطتنا الحياتية اليومية وحتى نثوب مجدداً إلى الفراش لنلقي عليه بأجسادنا التي أنهكها التعب!
تصور كلّ هذا، ثم تصوَّر نفسك بغير ذراعين ولا ساقين.. وأخبرني كيف يمكن أن تفعل كل ذلك دون أن تلعنَ القدرَ الذي اختارَكَ دون سائرِ البشر، لتكون على هذا النحو!
يقول نيكولاس فوجيتشيش: "إن لدي الخيار.. فإما أن أكون غاضباً تجاه الله بسبب الأشياء التي لم يعطنيها، وإما أن أكون ممتناً وشاكراً له لأجل ما منحني إياه"!
ويا للمفارقة..! فقد جعل نيكولاس من هذا البلاء الشديد، والمرض النادر مصدراً لإلهام غيره من الأصحَّاء ممن عجزوا عن فعل ما فعل ويفعل! فقد مارس السباحة والغطس وركوب الأمواج؛ بل القفز بالمظلات!
يقول: "أولئك الذين يرون أنفسهم فاشلين.. إنهم لا يفهمون أنهم كانوا على بُعد خطوة وشيكة من تحقيق النجاح، في اللحظة التي قرروا فيها الإقلاع عن المحاولة"!
كانت هذه الإعاقة سبباً في إصابته بالإحباط وهو صغير، وهل هناك ما هو أقسى على الإنسان من أن يرى نفسه الوحيد من بين أقرانه الذي لا يملك ذراعين ولا ساقين؟!
فكّر في الانتحار وهو في الثامنة من عمره، وحاول إغراق نفسه وهو في العاشرة، إلا أن والدَيه منحاه الأمل وعاوناه على أن يكمل مسيرته في الحياة وأن يرضى بما قسمه الله له، حتى انتهى من دراسته الجامعية، ثم حصل على درجتي الماجستير؛ بل والدكتوراه!
يقول عن والديه: "لا تيأس أبداً.. واعلم أنه يوجد دوماً شخصٌ ما.. يؤمن بك، ويحبك، لا لشيء إلا لذاتك، ولما أنت عليه".
أنشأ نيكولاس منظمة "الحياة بلا أطراف"، وأخذ ينتقل في دول العالم محاضراً، يلقي كلماته الساحرة على أسماع الناس لتتزلزل معها وبها قلوبهم، فتمنحهم الإيمان بالله والرضاء بقدره، والقدرة على صناعة الحياة ومواجهة المستحيلات.
يقول في واحدةٍ من محاضراته: "أعظم آمالي.. أن يراني أصحاب المعاناة، وأن يقولوا في أنفسهم: إذا كان هذا الشخص الذي لا يملك ذراعين ولا ساقين مُمتَنّاً وراضياً؛ بل ومبتسماً للحياة، فلا بد أن أكون أنا أيضاً، وأن أبذل كل ما أستطيعه بلا كسلٍ ولا تسويف".
كان نيكولاس يتمنى أن يتزوج، لكنه كان متردداً في اتخاذ هذا القرار حتى التقى شريكة حياته التي أحبَّته من كل قلبها (تايلاندية الجنسية)، فتزوجا في فبراير/شباط 2013 وأنجبا أربعة أطفال (ولدين وبنتين)، ويتمتع أربعتهم بصحة كاملة.. وهم يعيشون معاً في مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا الأميركية.
يقول عنها: "ليس لديَّ يدان لأتمكن من لمس يدي زوجتي بهما، لكنّ لمس قلبها لا يحتاج إلى يدين"!
في غضون أعوامٍ قليلة.. تحول نيكولاس، صاحب الإعاقة النادرة، إلى أيقونة تصنعُ الأملَ، وتَمُدُّ الناس بأسباب التفاؤل والعزيمة والإقبال على الحياة، وتدعوهم لأن ينفضوا عن أنفسهم الإحباط واليأس والقنوط من رحمة الله، وقد وصل عدد متابعي صفحته على فيسبوك إلى نحو 10 ملايين إنسان.
يقول: "إن الله لن يسمح بحدوث شيء واحدٍ في حياتك، إلا وهو خيرٌ لك".. كما يقول: "كَوني لا أدركُ أبعاد الخطة الإلهية التي وضعها لي الله.. فلا يعني هذا أنه ليس معي؛ بل هو معي".
أقول: كم يحتاجُ شبابنا العربيّ إلى التوقف بُرهَةً لمراجعة النفس وعدّ نعم الله وهم يشاهدون تسجيلات هذا الشاب الذي أنصح بمتابعته على يوتيوب. قال تعالى: "وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا، إنَّ الإنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار" [سورة إبراهيم : 34] صدق الله العظيم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.