اتفقنا على موعد أمام البحر في الإسكندرية، التي ظهرت في الخلفية كامرأة جميلة تنثر شعرها حول الدنيا وتُنير ضحكاتها الحياة.
قابلت صديقي بعد مرور سنوات من الفراق التي لم يتخللها سوى بعض المكالمات الهاتفية العابرة في مناسبتين شخصيتين لكل منا، سرعان ما أصبحت هاتان المناسبتان من الماضي الأليم.
ساد العناق وقتاً طويلاً ونشر حرارته حولنا ومزج الدفء بيننا، رأيت عينيه باهتتين ويكسوهما حزن عميق وألم سحيق، حاولت أن أخفي قلقي بالمزاح تارةً وبالسؤال عن الأهل والأصحاب تارة أخرى، حتى وصل القلق بي مداه وقررت أن أسأله، ما حل بك؟ يا صديقي، ماذا حدث لك؟! أين أنت يا صاحبي.
ساد صمت طويل حتى شعرت أننا وحدنا أمام البحر ولا أحد حولنا، أخذ وقتاً طويلاً حتى بدأ في سرد حكايته، وبدأت معها دموعي التي حاولت جاهداً أن أخفيها، أن أمنعها ولكني استسلمت لها حين استسلم لها هو الآخر وأصبحنا سوياً صرعى لتلك الدموع.
أخبرني صديقي كيف دارت به الدنيا وكيف تخلى عنه الرفاق والأصحاب وظن به الجميع الشر، وكيف تحول في أعينهم إلى ذلك الشرير، كيف وهو من هو الكريم الطيب ذو القلب الأبيض؟ استمعت وقلبي يحترق حتى صرت لا أقوى على النطق، أكمل صديقي قائلاً: لماذا لم يسمعني أحد، كيف لجأ الجميع إلى الحكم عليّ دون سؤالي؟! كيف حكموا؟! ثم أردف قائلاً أم أن تلك هي الرواية المحببة لديهم، أم أنني صرت لا أستحق حتى عناء البحث عن الحقيقة؟ لا أستحق حتى أن يستمع إلىّ أحد.
صدمتني الكلمات وهزتني وسحقت ما بقي منّي، حاولت أن أخفف ما به من ألم ووجع وحاولت أن أترك له المجال كل المجال أن يحكي ما حدث له، شعرت أنه ينطق بكلماته تلك للمرة الأولى، وهنا تحديداً انفجر قلبي باكياً بسبب تقصيري أنا في حقه، كيف لي إن تركته فريسة لكل تلك الهموم، كيف غبت أنا عنه.. ياه لقسوتي عليه!
أجمعنا سوياً على أخطائه وعلى ما جنت عليه نفسه، ولكنني أجد نفسي هنا مهموماً بتلك الفكرة من نحن؟!
نعم يا سادة يا كرام من نحن؟! كي ننصب أنفسنا حُكاماً وقضاة على العباد، من نحن؟ هل أصبحنا فجأة ظل الله على الأرض – معاذ الله – كي نطلق الأحكام على خلقه.
إنني أَجِد الحق كل الحق في أن نسمع من كلا الطرفين إن أردنا أن نتدخل للحكم، ولا نتبرع بذلك اتباعاً لهوى النفس، حتى وإن ظهر طرف منهم وهو يبكي دماً ويحترق ناراً، إن الكثير قد أتقن لعب دور الضحية حتى صار ضحية كل شيء، حتى تلك النملة التي تسير في صحراء الربع الخالي هو ضحيتها المظلوم.
وكأننا نمر بأقسى لحظات التاريخ الإنساني ويحيط بنا الاكتئاب من كل جانب مثل ظلنا، هلا تفكرنا ولو للحظة أن كلماتنا قد تتسبب في انتحار أحد أو أن تودي به إلى المهالك.
أيها السادة الكرام.. إن كلماتنا كالسيوف قد تقتل البعض وقد تُحيي البعض الآخر؛ لذا لا أَجِد أفضل من حث الناس على البداية الجديدة خيراً من حثهم على تدمير حياة بعضهم البعض، لكل منا كسره وجرحه، فماذا إذا وضعنا في ذلك الجرح الذهب والفضة في محاولة لمداواته وجبره كما جرت العادة في اليابان؛ حيث فنّ "الكينتسوكوروي" الذي عمره يمتد لما يقرب من خمسمائة عام.
"كينتسوكوروي" هي كلمة يابانية تعني إصلاح الأواني المكسورة ولحمها أو ترميمها بالذهب المذاب وأحياناً بالفضّة أو البلاتين.
والفكرة المرتبطة بهذا الفنّ هي أن الجمال يكمن في الأشياء المكسورة أو المعطوبة، بمعنى أن الإناء يصبح أكثر جمالاً لأنه انكسر.
كما أن الكسر ليس نهاية الأشياء بالضرورة، بل يمكن أن يكون بداية لبعثها إلى الحياة من جديد.
يعود أصل هذه الفكرة إلى القرن الخامس عشر، عندما بعث أحد حكّام اليابان بإبريق شاي مكسور إلى الصين لإصلاحه، ولكنه بدا قبيحاً بعد عملية الإصلاح، الأمر الذي دفع الحرفيين اليابانيين للبحث عن طريقة ترميم أخرى تكون أكثر فنّاً وجمالاً.
كان فضولهم وحماسهم إيذاناً بولادة هذا الفنّ. ويقال إنهم كانوا مسرورين كثيراً بهذا الابتكار لدرجة أنهم أخذوا يهشّمون الأواني الغالية الثمن عمداً كي يصلحوها بالذهب والفضّة.
والكينتسوكوروي -أو الكينتوجي كما يُسمّى أحياناً- ليست له دلالات روحية معيّنة، لكنه نوع من تقبّل الأشياء المعيبة التي قد تبدو، برغم العيوب، أكثر جمالاً من هيئتها الأصلية.
يبعث ذلك الفن برسالة لنا مفادها: لا تصلحوا الشيء بإخفاء عيوبه، بل بإظهارها بحيث يبدو أكثر قيمة وقوّة وجمالاً ممّا كان قبل الكسر، أو على الأصحّ لأنه تعرض للكسر.
صحيح أن قطعة الرخام أو السيراميك أو الخزف عندما تنكسر تتعرّض لبعض التلف ويلحق بها صدوع وتشقّقات قد تكون واضحة أحياناً، لكن إصلاحها ولحمها بالذهب أو الفضّة هو بحدّ ذاته احتفاء بالقطعة وتحسين لها، وكأننا بذلك نمنحها حياة جديدة، فالجمال يكمن في الكسر أحياناً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.