"أنا راح مني كمان حاجة كبيرة.. أكبر من إني أجيب لها سيرة".
(ع الشيكا بيكا، كلمات صلاح جاهين، ألحان كمال الطويل، غناء سعاد حسني في فيلم المتوحشة – 1979).
لكلٍّ منا "حاجة كبيرة" فقدها في لحظةٍ ما، أو تدريجياً، وليس المقصود هنا فقد الأحبة أو خسارةَ شيءٍ مادي، وهي سنة الحياة.
عن ثقبٍ في الروح أتحدّث
في هذه الأيام التي امتلكنا فيها أشياء كثيرة، أكثر من قدرتنا على استيعابها ناهيك عن إدارتها والتحكم بها، فقدنا في خضمّ ذلك "حاجات كبيرة" لا نتوقف، حتى ولو للحظات، من أجل التفكير فيها، ربّما هرباً من مواجهة حجم الخسائر الفادحة والمتناسلة التي قد نعجز عن إحصائها.
قال تشابلن يوماً مخاطباً الجماهير في المشهد الختامي من فيلم "الديكتاتور العظيم": "… كثيراً ما نفكّر وقليلاً ما نشعر"، لكن المصيبة يا عزيزي تشابلن أننا لم نعد نفكّر ولم نعد نشعر، وهما وظيفتان (التفكير والشعور) تنمّان عن إدراكٍ ذهنيّ وجسديّ، وغيابهما يعني حكماً غيابنا عن الوعي.
إذاً فنحن في شبه غيبوبةٍ، رغم أننا، ظاهرياً، شديدو "التفاعل" مع كلّ ما يحدث حولنا، الأخبار تصلنا عبر هواتفنا النقالة حتى قبل أن تذاع في الراديو (من يسمع الراديو في هذه الأيام!) أو في التلفزيون أو على موقع إلكتروني، نعرفُ لو ماتت بقرة في أكثر شوارع الهند ازدحاماً أو إذا صنعت امرأةٌ ما قالب حلوى في مدينةٍ أميركية أو فاجأ أحدهم صديقته بطلب الزواج في مشهدٍ رومانسيّ تحوّل مع تكراره إلى ابتذال، نستعرض الصور ومقاطع الفيديو واحدةً تلو الأخرى بسرعةٍ كي لا تفوتنا مشاهدة غيرها، ملايين من الأفلام ومشاهد الاحتفالات والمشاجرات والمجازر والمقالب "المضحكة" – كلها سيّان، تنهال علينا التحليلات والتوقّعات من كل حدبٍ وصوب لحظةً بلحظة، نستشير مواقع الأرصاد الجوية لنستعدّ لاستقبال العواصف التي صارت لها أسماء، نضع اللايكات والوجوه التعبيرية على الفيسبوك وفي محادثاتنا اليومية على الواتسآب ووجوهنا متحجرة، ثم حين نتعب من المشاهدة ومن "التواصل" نطفئ شاشاتنا ونكمل حياتنا في ما تبقى من وقت، أو في الأوقات المستقطعة، كأن شيئاً لم يكن، أو كأن شيئاً كان، ولكن.. نحن، من نكون؟ وماذا صرنا؟ أيةُ مسوخٍ صارت تسكن أرواحَنا الخاوية؟
"أنا راح مني كمان حاجة كبيرة".. ما الذي راح مني ومنكَ ومنها؟ سأسمي لكم بعض ما "راح منا" (الترقّب) أن تنتظرَ بلهفة شيئاً يأتيك بعد شوق عظيم مثل رسالة، (الدهشة) أن ترى الشيء كأنكَ تراه لأول مرة، (الأمان) حتى ولو كنت تسكن في أكثر بقاع الأرضِ أمناً، أن تشعرَ بأنّ ثمة سكينةً رائقة ومطمئنة تلفّ جوارحك، (التعاطف) أن تشعرَ بألمِ الآخرين، وأن يدفعَك هذا الألم إلى فعل شيء حتى ولو كان أضعف الإيمان، (الوقت) لم نعد نملك الوقت لشيء، (الضجر) الجميل الذي كان يدفعنا إلى المزيد من الحلم، الآن صرنا نقتل الضجر بأشياء تبعث أكثر على الضجر، وراحت منا أشياء أخرى كثيرة.
"أنا راح مني كمان حاجة كبيرة".. كبيرة لدرجةِ أن سعاد حسني انتهت جثة هامدة أسفل بنايةٍ شاهقة في مدينة الضباب، وأن جاهين مات مكتئباً في مستشفى، وأن العالم الذي نحن سكانه لا يأبه بمئات السوريين والعراقيين واليمنيين والأفغان الذين يموتون كل يوم على مرأى منه بوصفهم أضراراً جانبية، وأننا رأينا حلب تدمّر فوق رؤوس أبنائها، وأن فلسطين صارت عنواناً فرعياً في نهاية نشرات الأخبار.
ليست هذه مرثيةً لزمنٍ يصفونه مبالغةً، تحت وطأة بشاعةِ هذه الأيام، بالزمن الجميل، ولا هجاءً لهذه السنين العجاف التي حلّت علينا في مسارٍ حتمي لا رجعة منه فرضته تطورات الحياة حين استغلّ الإنسان الطبيعة التي سخّرها الله له أسوأ استغلال، وبعد أن روّض عناصرها من نارٍ وماءٍ وهواء وكنوزٍ في باطن الأرض والمحيطات، نسيَ في زحمة زهوه باختراعاته أهمّ شيء.. نسي أن يروّض نفسه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.