سهل جداً أن أدبج الأسطر القادمة لصياغة تفسيرات تبدو متماسكة وموضوعية لفوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وديباجة كتلك ليست في احتياج لجهد عقلي يتجاوز حدود النقل من التحليلات الإخبارية ومقالات الرأي الكثيرة التي تلتهم المساحات في الصحف وعلى مواقع مؤسسات التفكير الأميركية والأوروبية، غير أن ذلك لن يرتب سوى وصم للأسطر القادمة بخليط من إنكار العوامل الحقيقية التي رتبت صعود ترامب، ومن الاستخفاف بما يمثله صعوده للولايات المتحدة وللعالم، وبما يضعه أمام الفكرة الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان والحريات وحكم القانون من تحديات كبرى، وسيحول دون لفت انتباه القراء إلى الاختفاء العالمي للأغلبيات الشعبية المنافحة عن الديمقراطية والرافضة لعنصرية وشعبوية ترامب ومن هم على شاكلته.
فتارة أولى تستند بضاعة التحليل والرأي المستنفرة اليوم إلى تفاصيل اختيارات الهيئة الناخبة (إجمالي المتمتعين بحق التصويت الانتخابي) في الولايات المتحدة؛ لكي تربط فوز رجل الأعمال ترامب بتأييده من قِبل البيض من المنتمين إلى الشرائح العمالية وغير الحاصلين على شهادات جامعية، ومن أغلبية الرجال البيض متوسطي العمر وكبار السن (فوق 35 سنة)، ومن نساء ورجال الأسر البيضاء المتدينة (الإنجيليون البيض كما يسمونهم في الكتابات الأميركية) الذين يسكنون المناطق الريفية ويبتعدون عن المراكز الكوزموبوليتانية على الساحلين الشرقي والغربي.
يقرر دارسو السلوك الانتخابي والمختصون في تقلبات اتجاهات الرأي العام، وفقاً لحقائق ومؤشرات موضوعية، تأييد كافة هذه المجموعات لترامب وانقلاب بعضها كالشرائح العمالية على الحزب الديمقراطي ومرشحته بعد تصويت ثابت للديمقراطيين خلال العقود الماضية (منذ رئاسة بيل كلينتون الأولى في 1992).
غير أنهم يكتفون فيما خص توضيح أسباب تقلبات وانقلابات الناخبات والناخبين بإشارات إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية مثل انتقال الصناعات من الولايات المتحدة إلى خارجها، وركود الأوضاع المعيشية للشرائح العمالية، والمعاناة المتزايدة من الفجوة في دخول الأفراد بين سكان المدن وسكان المناطق الريفية، ويصمت أولئك الدارسون والمختصون عن كون "الرئيس المنتخب" لم يقدم طوال عام الحملة الانتخابية (التنافس على بطاقة ترشح الحزب الجمهوري ثم المواجهة مع هيلاري كلينتون) أطروحات جادة للتغلب على أزمات ارتحال الصناعات وفجوة الدخول، بل اقتصر على يافطات عنصرية معادية للأجانب وللمهاجرين ومواقف شعبوية وحمائية ضد اتفاقيات التجارة العالمية يصعب تطبيقها، ويمكن أن تلحق بالاقتصاد الأميركي بالغ الضرر.
يصمتون عن ذلك، وعن حقيقة تعاطف العمال والمتدينين البيض مع عنصرية وشعبوية وحمائية ترامب على خلوها من المضمون السياسي العملي واستحالة تطبيقها.
وتارة ثانية تدفع ذات بضاعة التحليل والرأي إلى الواجهة بملفات الفساد وإساءة التصرف واستغلال المنصب العام التي حاصرت ترشح هيلاري كلينتون منذ بدأت المنافسة على البطاقة الرئاسية للحزب الديمقراطي وحتى الأيام الأخيرة في مواجهتها الانتخابية الشرسة مع ترامب، ثم تربط بين إخفاق كلينتون وبين غياب ثقة الناس في نزاهتها وفي التزامها إعلاء المصلحة العامة على حساب المصالح الشخصية والأسرية.
يرى طيف واسع من الصحفيين وكتاب الرأي أن قضية "بريد كلينتون الإلكتروني" أضرت بفرص نجاحها في الانتخابات الرئاسية، خصوصاً حين أبلغ مدير المكتب الفيدرالي للتحقيقات (جيمس كومي) الكونغرس بإحياء التحقيق في القضية قبيل أيام من إجراء الانتخابات، بل يذهب البعض إلى القراءة التآمرية لدور المكتب ويوصفونه كتدخل استخباراتي محسوب في العملية الانتخابية استهدف إسقاط كلينتون، ويقارنون بين التحقيقات المستمرة بشأن كلينتون وبين "تجاهل" ملفات فساد ترامب.
غير أن المسكوت عنه هنا هو كون شبهة الفساد وإساءة استغلال المنصب العام التي حاصرت كلينتون تماهت في المضامين والتداعيات مع غياب عام لثقة الناس في نزاهة مؤسسات الحكم وفي مصداقية النخب التقليدية التي اعتادت تداول السلطة، وشغل المناصب العامة في العاصمة واشنطن.
المسكوت عنه أيضاً هو كون فساد ترامب (استغلاله لثغرات قانونية للتهرب الضريبي والشبهات المحيطة ببعض مؤسساته كجامعة ترامب ومؤسسته الخيرية) يتعلق بفساد محتمل لرجل أعمال ينشط في القطاع الخاص وليس لمسؤول عام.
منذ تسعينات القرن العشرين ووفقاً للكثير من دراسات الثقافة السياسية والرأي العام، وأغلبية المواطنات والمواطنين في الولايات المتحدة الأميركية تقر بتراجع ثقتها في الأحزاب السياسية وفي المؤسسة البرلمانية (الكونغرس) وتسمي شبهات الفساد وسوء استغلال المنصب العام وانفصال نخب واشنطن عن الواقع الحياتي والمعيشي للناس كالأسباب الأساسية لذلك، منذ تسعينات القرن العشرين أيضاً، وثقة الناس في المؤسسة العسكرية والمؤسسات الدينية وفي الشخصيات العامة القادمة من خارج نخب واشنطن تتصاعد والربط بإيجابية بين فرص "إصلاح واشنطن" (شعار "تجفيف المستنقع" الذي رفعه ترامب في حملته الانتخابية) وبين تولي غير الحزبيين وغير السياسيين للمناصب العامة يشتد.
يسكت مروجو بضاعة التحليل والرأي الذين يقصرون النتائج الانتخابية لشبهة فساد كلينتون على تداعيات تحقيقات المكتب الفيدرالي عن الذيوع الشعبي للانطباعات السلبية بشأن نخب واشنطن والتي ضربت بعنف كلينتون، السيدة الأولى السابقة والعضو السابق في مجلس الشيوخ والمتنافسة السابقة على بطاقة الترشح الرئاسي للحزب الديمقراطي ووزيرة الخارجية السابقة، ولم تمكنها من ادعاء حضور طاقات إصلاح واشنطن وتغيير السياسات العامة داخل حملتها أو من اكتساب هوية المرشحة التقدمية الذاهبة إلى العاصمة الفيدرالية لإنهاء مستنقع الفساد والركود الذي أغرقها.
فهيلاري كلينتون بسيرتها الذاتية وتاريخها السياسي هي التجسيد الأكثر وضوحاً لنخبة واشنطن المكروهة شعبياً، وأطروحاتها السياسية لم تخرج في المجمل عن سياسات إدارة أوباما التي بحثت شرائح مؤثرة بين الناخبات والناخبين عن تغييرها (بغض النظر عن مدى النجاح أو الفشل الموضوعي للسياسات هذه).
وتارة ثالثة يزعم أصحاب بضاعة التحليل والرأي المستنفرة اليوم أن مشاعر كراهية الأميركيين من أصول إفريقية وكراهية عموم الأجانب غير البيض والمسلمين وكراهية النساء الباحثات عن المساواة الكاملة التي تحضر بين "الرجال البيض"، خاصة من العمال غير الحاصلين على شهادات جامعية ومن سكان المناطق الريفية رتبت تصويتهم بكثافة لصالح دونالد ترامب، أي لصالح الرجل الأبيض كرئيس يخلف "الرئيس الأسود" و"يطهر" البيت الأبيض من أصوله المسلمة ويمنع وصول سيدة إلى المنصب التنفيذي الأعلى في البلاد.
يزعمون أيضاً، وعلى استحياء، أن فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية يمثل "الصيحة الأخيرة" للرجال البيض بعنصريتهم ونظرتهم الدونية للنساء قبل أن تتحول خريطة الناخبين باتجاه أغلبية لغير البيض والنساء ومواطني الأقليات، وحتماً ستتحول في ذلك الاتجاه.
أما المريب في هذا الصدد فيتمثل في رفض أولئك "المحللين السياسيين" استكمال قراءة تفاصيل المشهد الانتخابي الذي جاء بترامب رئيساً.
فعنصرية الرجال البيض لم تدفع الأميركيين من أصول إفريقية إلى المشاركة في الانتخابات بمعدلات تتجاوز مشاركتهم في مرَّتي فوز أوباما بالرئاسة في 2008 و2012، بل تراجعت معدلات المشاركة قليلاً، والنظرة الدونية للنساء التي يجسدها ترامب بجلاء صادم لم ترتب ارتفاع معدلات مشاركة المواطنات الأميركيات في الانتخابات أو تضمن لمنافسته الأغلبية الساحقة من أصوات النساء، بل حصد ترامب نسبة معتبرة من أصوات نساء الأسر البيضاء إن العاملة أو المنتمية إلى الطبقة الوسطى. وكراهية الأجانب غير البيض وعموم المهاجرين والمسلمين التي تقدم لها وعود ترامب الانتخابية المتعلقة ببناء السور على الحدود الأميركية مع المكسيك، وبمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة وبالرقابة الأمنية للمسلمين من المواطنين والمقيمين وبإغلاق أبواب الهجرة واللجوء ترجمة سياسية مباشرة (حتى وإن تعذر تطبيقها)، تلك الكراهية لم ينتج عنها ارتفاع مؤثر في أعداد الناخبات والناخبين من ذوي الأصول اللاتينية (أي القادمين من بلدان أميركا الوسطى والجنوبية)، ولا في أعداد الناخبين المسلمين أو في أعداد شباب الناخبين المعروف عنهم الاختيارات التقدمية ورفض كراهية الأجانب. لا ينظر "المحللون السياسيون" إلى مثل هذه التفاصيل بدقة، ولا يوظفون "معرفتهم" لطرح تفسير مقنع للاختيارات الانتخابية للشرائح المتضررة دون ريب من رئاسة ترامب.
هكذا يتواصل إنكار العوامل الحقيقية التي خلقت ظاهرة دونالد ترامب وجاءت به رئيساً للديمقراطية الأقوى عالمياً، ويستمر الاستخفاف بالتحديات الكبرى التي يضعها أمام الفكرة الديمقراطية، وعلى هوامش بضاعة التحليل والرأي المستنفرة اليوم تظهر تحايلات أخرى تروج لصورة ذهنية وسياسية جديدة لترامب كرئيس "عادي" سيتخلى عن مبالغاته الانتخابية ويتأثر "بواقعية" أعضاء إدارته القادمين من "نخب واشنطن" التقليدية، في تجاهل تام للعنصرية والشعبوية وكراهية النساء والأجانب والمهاجرين والمسلمين التي يجسدها ترامب وتتبناها الشرائح الشعبية التي انتخبته.
نحن في معية لحظة فارقة لديمقراطية الولايات المتحدة الأميركية ولفرص بقائها، نحن في معية لحظة فارقة لمصير الفكرة الديمقراطية عالمياً بعد أن منحت أغلبيات شعبية في الكثير من الديمقراطيات تأييدها لسياسيين شعبويين كرئيس وزراء الهند الحالي و"الرئيس" الأميركي ترامب، أو لأفكار شعبوية كالخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا وكسياسات رفض الهجرة واللجوء التي تجتاح المجتمعات الأوروبية، وبعد أن تعاظمت أدوار الحكام المستبدين والحكومات المستبدة عالمياً من روسيا والصين إلى تركيا وإيران والسعودية، وبعد أن انهارت التحولات الديمقراطية وعادت القبضة السلطوية إلى بلدان كمصر، هذه لحظة فارقة تستدعي، بعيداً عن الإنكار والاستخفاف والتحايل، إعمال ملكتَي التواضع والنقد الذاتي للتفكير الجاد فيما لم نتوقع قدومه من صعود للعنصرية والشعبوية والبحث الرشيد في أسباب أزمة الديمقراطية وسبل مواجهتها.
هذه التدوينة منشورة على موقع القدس العربي.. للإطلاع على النسخة الأصلية إضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.