كان 2 مارس/آذار 1956م تاريخ استقلال المغرب من المستعمر الفرنسي، بيد أن لعنة الفرانكفون ظلت تلاحق البلاد إلى يومنا هذا: استعمار فرنسي، بدون فرنسيين، ظاهرة ذكرتني بمقولة جمال عبد الناصر: "نحن لم نطرد الاستعمار من الباب كي يعود إلينا من الشباك".
يُخيّل إليَّ في بعض الأحيان أن المغرب لا يزال قائماً على أسس وأجهزة نظام الحماية الفرنسية التي فرضت عليه في عام 1912م.
61 عاماً مرَّت على انسحاب الاحتلال العسكري الفرنسي إثر فشله الشنيع تحت ضغط المقاومة الفظة التي شنتها عليه الحركة الوطنية المغربية، لم تمر مرور الكرام بل تركت خلفها لوبيات قوية مخلصة لمصالح الفرنسيس في البلاد: "خدام الفكر الفرانكوفوني".
قبل الخوض في عمق موضوعنا لا بد أن نقف عند أصل مصطلح "الفرانكوفونية" حيث يعود استخدامه إلى العالم الفرنسي "أونزيم ركلو Onesime Reclu" منذ عام 1880م، ويشير إلى أفراد أو جماعات يتمتعون بخلفية ثقافية ترتبط بالأساس مع اللغة الفرنسية، بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية.
أما بالمغرب فقد اعتبر الماريشال "هوبير ليوطي Hubert Lyautey" أول من وضع أسس الفرانكوفونية لفرنسة الأنظمة السياسية والإدارية آنذاك؛ حيث اتضحت أيديولوجيته من خلال دورية له بتاريخ 16 يونيو/حزيران 1921م حول لغة التعليم بالمغرب؛ إذ قال: "من الناحية اللغوية، علينا أن نعمل مباشرة على الانتقال من البربرية إلى الفرنسية.. فليس علينا أن نُعلّم العربية للسكان الذين امتنعوا دائماً عن تعلمها. إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام؛ لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن، بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج نطاق الإسلام".
فنستنتج إذن أن ما حدث منذ 1912م لم يكن فقط احتلالاً ترابياً بل شكَّل سياسة تمهيد لاحتلال فكري وثقافي استمر قائماً إلى ما بعد الاستقلال.
الخلط المتعمد:
يقول وزير الثقافة الفرنسي أندريه مالروكس André Malraux: "الفرانكوفونية ليست مجرد لغة، بل إنها حضارة قادرة على ضمان مستقبل العالم".
ومن الملاحظ أن النظام التعليمي المغربي يتعمد مزج مفهومي "لغة التدريس وتدريس اللغة"، ويتضح هذا من خلال تركيزه على تحويل الفرنسية من لغة أجنبية أولى أو ما يسمونه في قاموسهم بلغة الانفتاح على العالم المتقدم، إلى نظام دراسي وثقافي يسعى جاهداً لجعله منسجماً مع الثقافة الأم للمجتمع، كيف لا وقد كان رئيس "رابطة الشعوب الناطقة كلياً أو جزئياً باللغة الفرنسية" بالمغرب هو أول "وزير للتعليم" بعد الاستقلال؟!
أيستقيم الظل والعود أعوج؟
تساؤلات عدة طُرحت حول إشكالية اللغة الفرنسية كعنصر فاعل في المنهج الدراسي، وسبب من أسباب تدني المستوى التعليمي الجامعي بالمغرب وترتيبه في ذيل سلم التصنيف العالمي.
فبالرغم من أن الفرنسية مادة حاضرة منذ السنة الثالثة من السلك الابتدائي، فإن الإشكالية تكمن في جودة تدريسها، وأعتقد أن السبب الرئيسي يكمن وراء المناهج التربوية المقترحة للمتعلم، ناهيك عن المستوى اللغوي للمدرس في حد ذاته، وتوظيف كل مَن هبَّ ودبَّ لتدريس هذا الاختصاص فقط لسد العجز، زيادة على غياب التكوين المستمر في المادة، حيث كشفت دراسة حديثة أعدها المرصد الوطني للتنمية البشرية بشراكة مع البنك الدولي، أن أغلب أساتذة اللغة الفرنسية بالمؤسسات التعليمية الابتدائية بالمغرب لا يتقنون لغة موليير. فهل بنظركم فَاقِدُ الشيء يعطيه؟
الفرنساوية.. عقبة الطالب المغربي:
ينجح التلميذ في البكالوريا وينتقل إلى المرحلة الجامعية، فتتغير لغة المنهج الجامعي إلى الفرانكفونية، وبالتالي تخلق نوعاً من الاهتزاز والصعوبة البالغة في الفهم والتحليل لدى الطالب، فتصبح الدراسة صعبة بحكم الضعف في المكتسبات الخاصة باللغة الفرنسية، ومنه عدم استطاعة المتعلم مواكبة الدروس، نذكر بالخصوص الشعب العلمية، فحتى لو كان الطالب نابغة في شعبة علمية ما، وكان مستواه في الفرنسية ضعيفاً، فإنه سيعاني الأمرَّين، وبالتالي يبذل بعض الطلبة مجهوداً مضاعفاً قد لا يكون كافياً في تفوقهم الدراسي، كترجمة المحاضرات إلى العربية ليفهموا ولو الشيء اليسير، ما يشكل عبئاً إضافياً لهم، ونتيجة لذلك، يرسب الكثير من الطلاب أو يتركون الدراسة.
في لحظة استرجعت ذاكرتي للوراء بضع سنوات مضت منذ بداية مشواري الدراسي الجامعي، في أول يوم لي على المدرج في محاضرة الكيمياء الذرية؛ منهج ومقرر مأخوذ من جامعة فرنسية يطبق على الطلبة الجدد بخاصية "الكوبي.. بيست"، أتذكر معاناة الأستاذة مع كلمة فرنسية من حيث التذكير والتأنيث، سخرية بعض الطلبة وهتافهم: " عَرِّبيِ.. عَرِّبيِ "، أمر عادي لا يدعو للاستغراب، فكيف لطالب جديد أن يتابع التحصيل الدراسي لمادة وشعبة لا تستعمل اللغة العربية التي تعلم بها طيلة مساره الدراسي الابتدائي، والإعدادي والثانوي؟ وكيف لأستاذ يجد هو نفسه صعوبة في اللغة أن يلقن طلبته منهجاً فرانكوفونياً.
تلفتّ إلى زميل لي كنا قد درسنا معاً في مرحلة الثانوي، لمحت حرقة ومرارة بعينيه، سألته عما يجري، فأجابني بضيقة صدر: "اليوم انتهت صلاحية البكالوريا، عذراً فلغتي الأم لن تمكنني من التفوق وأنا لست مسلحا"، كان ذلك آخر يوم له بالجامعة، آمال تكسرت قبل أن تبدأ، مثال لطالب مغربي من بين مئات من الطلبة الذين أُجبروا على التخلي عن الجامعة، أحلام وطموحات لطالما خططوا لها طيلة مشوارهم الدراسي الثانوي انكسرت بمجرد الاحتكاك بواقع التعليم المتدني، عفواً التعليم العالي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.