يسمون في العامية التونسية بـ"البرباشة"، أي الذين ينبشون في الفضلات لجمع ما قد يصلح لاستغلاله أو بيعه.
هم أناس تقطعت بهم السبل، فوجدوا في هذا النشاط مورد رزق لهم ولعوائلهم.
"البرابشة" يتحدون المخاطر الصحية المحيطة بعملهم، ويعانون من صراع يومي مع رجال الشرطة البلدية الذين يعتبرون أن ما يقوم به هؤلاء مخالفة بيئية، غير أنهم متشبثون بعملهم، حتى وإن كان بالكاد يسد رمق عائلاتهم، مادام أمل إيجاد فرص شغل في البلد أمر صعب التحقق.
بعيدون عن السياسة وعن الإقتصاد، لا يهمهم من دخل قصر قرطاج، ولا السهم الأكثر تداولات في البورصات؛ كل ما يهم "البرباشة" هو ما "ستتكرم" به "القمامة" في البلاد عليهم، حتى يعيدوا بيعه.
جامعي يعيش من القمامة
منهمكا في موقع لـ"القمامة" بأحد الأحياء الشعبية بتونس العاصمة، يلتقط القوارير البلاستيكية، وقطع الخبز اليابس، يجمعها كل على حدة في أكياس، ثم يرميها في عربته الصغيرة و ينطلق في رحلة بحث في مكان آخر.
هكذا حال أحمد، ابن 26 عاماً، يقضي يومه متنقلا من موقع إلى آخر، غير مبال لا بقيظ الصيف ولا ببرد الشتاء ولا برائحة النفايات التي تزكم الأنوف.
يقول أحمد لـ"عربي بوست" إنه يلمح "نظرات الاشمئزاز والتأفف في عيون المارة بسبب طبيعة عملي، لكن ذلك لا يعنيني في شيئ، طالما أكسب قوت يومي بعرق جبيني وأضمن توفير لقمة لعائلتي المكونة من 7 أفراد من دون أن أمد يدي لأحد".
سيدهشك إذا علمت أن أحمد حاصل على شهادة جامعية في العلوم التقنية، لكن الحظ لم يسعفه في الحصول على وظيفة تلائم مستواه التعليمي.
يوضح قائلا إن "عملي في هذه المهنة كان آخر خيار لي كمورد رزق أجني منه بالكاد ما يسد رمق العائلة من أبسط ضروريات الحياة الكريمة. طرقت كل الأبواب وكنت أحلم بوظيفة محترمة تتلاءم مع تكويني الجامعي، لكن طال الانتظار، ولم أجد سوى النبش في القمامة كمورد رزق لي ولعائلتي" .
ربع دولار عن الكيلوغرام الواحد
بعد يوم شاق يقضيه أحمد في هذا العمل، وبعد تجميع عدد لابأس به من القوارير البلاستيكية، يقوم بالتوجه لنقاط تجميع صغرى منتشرة في العاصمة ويديرها وسطاء بين "البرباش" ومعامل إعادة التدوير، ليحصل على مبلغ أقل من ربع دولار عن الكيلوغرام الواحد من القوارير.
ويرى أحمد أن نقاط التجميع، وهي الوسيط بين "البرباشة" والمصانع، تزيد في معاناة هؤلاء، حيث تشتري منهم المواد البلاستيكية بأبخس الأثمان، ثم تبعها لمصانع إعادة التدوير بأسعار أعلى بكثير.
عموما، لا يتجاوز الدخل اليومي "للبرباش" 4 أو 5 دولارات، بعد يوم شاق يقضيه في التنقل من مكب نفايات إلى آخر، "لكن ما باليد حيلة" كما يقول أحمد.
حياة مهددة وصراع يومي مع الشرطة
فضلاً عن المخاطر الصحية التي تواجههم، بسبب طبيعة عملهم التي تجبرهم على استنشاق الروائح العفنة والتقاط معادن حادة كالحديد، يعيش "البرباشة" صراعا يوميا مع رجال الشرطة البلدية الذين يعتبرون ما يقوم به هؤلاء مخالفة بيئية وعملا عشوائيا، لاسيما بعد تلقيهم شكاوى من سكان الأحياء، بسبب نبشهم الأكياس أو قلبهم لحاويات الفضلات، فيكون مصير بعضهم التعرض لغرامات مالية تزيد من معاناتهم.
يقول أحد المسؤولين عن مستودعات جمع القمامة والفضلات المنزلية بجهة بن عروس (شمال تونس)، إن شكاوى كثيرة تصلهم من المواطنين بخصوص نشاط "البرباشة" العشوائي، وتعمدهم فتح أكياس القمامة ونبشها، مما يجعلها مرتعا للقطط والكلاب السائبة والحشرات، ويزيد في مشاكل التلوث البيئي، لذلك "تسعى إدارة البلدية بالتعاون مع الشرطة للتصدي لهؤلاء، أو على الأقل تنبيههم".
الثورة والأنشطة غير النظامية
الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم، يتحدث حول نمو ظاهرة "البرباشة" في تونس واتساع رقعة نشاطهم، ويقول لـ"عربي بوست" إن من "إفرازات الثورة انتشار الأنشطة الاقتصادية غير النظامية في شوارع تونس وأحيائها الشعبية".
ويضيف الحاج سالم قائلا إن في حي "دوار هيشر"، أحد أضخم أحياء تونس الشعبية وأقدمها، والواقع بولاية منوبة غرب العاصمة، "يضطر الكثير من السكّان إلى الاستعمال النشط اقتصادياً للشارع، في إطار وضع اجتماعي يتّسم بندرة فرص الشغل والهشاشة الفائقة".
ويتم استغلال الشارع من خلال أنشطة تجاريّة، مثل "استثمار حاويات النفايات، والميكانيك، والخردة الصغيرة، أو نصب بسطات" بيع الخضار والغلال والملابس، وهي في معظمها أنشطة غير نظامية".
جمعية للبرباشة.. لكن
"البرباش" حسب الحاج سالم، لا يمثّل سوى فاعل صغير في حقل اقتصادي واسع، غير أنه الفاعل الأدنى مكانة والأقلّ استفادة من الموارد المتداولة ضمنه، ذلك أنه يمارس نشاطاً اقتصاديا شاقّا مقابل كسب مادّي بخس.
ويضيف الباحث في علم الإجتماع أن إستنادا إلى دراسة ميدانية أجراها سابقا حول الموضوع فأن "البرباش" الواحد يجمع يوميا ما معدله مئة قارورة بلاستيكيّة، أي ما يساوي 6 دنانير (أقل من 3 دولارات) عند البيع لدكّان التجميع، لكن أصحاب محال التجميع يجنون في المقابل مئات الدنانير أسبوعيّاً، دون عناء تقريباً.
وتكاثرت محال التجميع في الأحياء بعد الثورة حتى فاق عددها العشرة، وهي تحقّق أرباحها من الوساطة بين "البرباشة" ومصانع البلاستيك، التي تعتبر الرابح الأكبر، إذ تجد يدا عاملة هشّة تضمن لها تجميع المواد الأوليّة التي تحتاجها في صناعتها، عبر وسيط غير مباشر، دون أن تلتزم معها برابطة شغليّة تعاقديّة وقانونيّة.
وبالرغم من محاولات الدولة تنظيم عمل هذه الفئة المهمشة من المجتمع وتقنين نشاطها، عبر إنشاء أول جمعية "للبرباشة" بجهة "حي التضامن"، وهو من أكبر الأحياء الشعبية الفقيرة جنوب العاصمة، غير أن أغلبهم يعمل بشكل عشوائي، ولا تعنيه مثل هذه الجمعيات، في ظل غلاء المعيشة وانسداد آفاق الشغل.