منذ أن رسمت "سايكس بيكو" عام 1916 حدود العالم الجديد، وتحديداً في منطقتنا العربية، ونحن ندافع عن هوياتنا الجديدة، ونعتز بها، إلى حد أننا جعلنا من تلك الأوطان أوثاناً تعبد من دون الله، وبالمقابل كنا نهاجم ليل نهار تلك الاتفاقية المشؤومة التي فرقتنا وجعلتنا دولاً وأقطاراً، نتناحر في أحيان كثيرة فيما بيننا، وعشنا ردحاً من الزمن، وربما كل زمننا، أمام هذا الانفصام بين أوطاننا التي نحبها ونعشقها وندافع عنها، وهي التي خلقتها سايكس بيكو وبين الاتفاقية التي قسمتنا.
لعبت كتب التاريخ والمناهج الدراسية التي أقرتها الكيانات التي اصطنعتها اتفاقية سايكس بيكو دوراً مهماً في ترسيخ مفهوم القطرية عند أجيال كثيرة، فلقد كان لتلك المناهج الدور الأكبر في تكريس حالة الانعزال عن المحيط والالتفات للداخل بطريقة أنست بعض العرب أنهم عرب، بل أنست آخرين أنهم مسلمون.
في ذات الوقت كانت ذات المناهج تهاجم هذه الاتفاقية ليل نهار، وتتحدث عن حلم الوحدة العربية، قبل أن نكتشف لاحقاً أن ذلك ما كان إلا للاستهلاك الداخلي وتطيباً لخواطر المناهضين للتقسيم.
شيئاً فشيئاً وجدنا أنفسنا أننا نتقاتل، نحن الكيانات المصطنعة، وفاقت حروبنا كل الحروب التي شنتها هذه الكيانات المصطنعة مع من كانت تقول إنهم أعداء.
حالة من الانفصام كبيرة، وكبيرة جداً، عاشتها وعايشتها أجيال عدة، فلسطين تارة، قضية العرب الكبرى والقضية المركزية التي لا تفريط أو مجاملة في شأنها، غير أن ذلك لم يكن يستدعي من تلك الكيانات أي تحرك، بل كثيراً ما لعبت تلك الكيانات دوراً سلبياً في ضياع فلسطين.
أسهمت هذه الحدود التي رسمتها "سايكس بيكو" في تقوية نزعات داخلية كان الكثير منها ضامراً تحت عمامة الخلافة الإسلامية إبان حكم الدولة العثمانية، فصرنا نسمع عن هويات طائفية وعرقية وإثنية، بل تطور الحال لاحقاً إلى أن تقتل تلك المكونات داخل الوطن الواحد الذي رسمته اتفاقية "سايكس بيكو".
ورغم أن الحدود ظلت فاعلة في حياة العرب، فإن تحولاً كبيراً طرأ على طريقة تفكير الشعوب تزامن مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003، يوم أن صار النقل الفضائي قادراً على أن يضعك في قلب الحدث، فانتبه العرب إلى أنهم أمة، ولكن هيهات فلقد فات الأوان، فالأقطار والكيانات المصطنعة منعت العربي والإسلامي من أن ينتخي لأخيه العربي والإسلامي.
ثم جاء الربيع العربي، بكل رياحه وأمطاره، سبقه دخول وسائل التواصل الاجتماعي إلى جغرافيا الدول العربية؛ لتبدأ مرحلة جديدة من الوعي تتشكل لدى هذه الجموع العربية، فلقد أدركت، وخصوصاً بعد أن فقدت العراق، بأن لها مصيراً واحداً وصارت مقولة" أكلت يوم أكل الثور الأبيض" تطرق مسامع العرب كثيراً، فكانت روح التضامن حاضرة بين الشعوب العربية.
اليوم وبعد أن تفتت أوطان وأخرى في طريقها للتفتت، وبعد أن صار لدينا أكبر موجة نزوح وهجرة وصلت إلى ملايين البشر في العراق وسوريا، وقد تلقحها مصر واليمن وليبيا أو غيرهما من الأقطار العربية، وبعد أن تحولت هذه الملايين إلى أوطان بديلة، برغبتها أو رغماً عنها، فإن جيلاً جديداً سينشأ بعيداً عن وطن الأب والأم، إنه جيل لا يعرف عن الوطن سوى ما تحكيه أمه أو ما يسمعه عبر نشرات الأخبار.
اليوم بات الجميع يدرك أن الأوطان العربية باتت قابلة للتفتت أكثر من أي وقت مضى، والوطن الذي يذهب لا يعود، أمر سيشكل مستقبلاً حساً جمعياً سيسهم بطريقة أو بأخرى في تحديد مستقل المنطقة، خصوصاً أن هذه الأجيال الجديدة التي ستنشأ بعيداً عن الوطن الماضي سيكون لديها رغبة كبيرة في احتضان الوطن، ولكنه الوطن الذي ستسعى لتشكيله، وليس ذاك الذي شكلته "سايكس بيكو".
الإحساس بوحدة المصير بين هذه الدول مع الانفتاح على دول إقليمية كبرى مثل تركيا لها ربما ذات المصير، سيسهم كثيراً في نشوء وطن آخر، وطن ستعمل على بنائه عقول وسواعد ما عرفت عن الكيانات المصطنعة سوى حكايات، غابت أو ستغيب في متاهات السنين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.