قبل ثلاثين سنة كتب جدّي الأستاذ المرحوم (حسن التل) مقالة بعنوان (ثقافة الموت) يفصّل بها ماذا يصيبنا ساعة الموت وبعده، قرأتها أول مرة لمّا توفّاه الله قبل ثلاثة عشر عاماً، وقرأتها بعد ذلك مئات المرّات، وكنت في البداية أستغرب قرب الرّجل إلى الموت وتكراره لذكره، وعندما أكون عائداً معه (طفلاً) إلى إربد يتوقف لصلاة المغرب في مسجد قائم على أبواب المدينة، يدخل بعد الصّلاة إلى تابوت موضوع بقرب المحراب لدقائق قليلة، ليذكّر نفسه بالموت وعتمة القبر..
بعدما رحل عنا جدّي -رحمه الله- أوّل ما فكّرت فيه كان الحزن بعدما رسمت عشرات السيناريوهات لفقدان الأحبة، لماذا نحزن عندما يموت أحدهم؟ أنحزن على الميت أم نحزن على أنفسنا؟ وإذا كنّا نحزن عليهم فلماذا؟ أليسوا عند ربهم في مقام خير من مقامنا؟! وإذا كنّا نحزن على أنفسنا، أيكون حزننا على فقدنا قطعة من حياتنا ولأبطال حكايانا وعلى مستقبل خلا من مواقف ستكون ذكريات معهم بعد حين؟ والأهم من كل هذا هل الموت بكل تفاصيله حقًّا مشكلة حتى نسأل عنه ونحاول فهمه؟!
ولنجيب على كل هذا، دعنا في البداية نقدِّم بعض التعريفات حتى تتضح الصورة قليلاً، ولنبدأ بتعريف الأشكال والمشكلة، فالأولى هي: كل شيء يحتوي على تناقض، والثانية هي: الشعور بالإشكال أولاً ثم طلبه وإعمال العقل فيه لنجد لتناقضاته حلاًّ. أمّا الموت فتعريفاته كثيرة منها: هو فعل فيه القضاء على كل فعل أو أنه نهاية الحياة والإمكانات وبلوغها حد التفتّح بالكمال (النضوج) وما بعد النّضوج إلا القطاف، كالثّمرة التي تسقط عن الشجرة وتنقطع عنها أسباب الحياة إذا نضجت. ويقول الغزالي: الموت هو طور آخر من الأطوار، ونوع آخر من الترقي، وضرب آخر من الولادة والانتقال من عالم إلى عالم. وقيل: إن الموت هو انقطاع للتعلق (للروح عن الجسد)، وليس بعدم محض ولا فناء صرف. ولمّا كان الموت يحمل في طياته تناقضًا (على الأقل في نظر أغلب الناس) وتناقضه هو أنّه نقيض الحياة بالمعنى ويحمل في معناه أيضاً بداية لحياة أخرى، وأنه الهادم للملذات، ولا يأتي إلا إذا بلغ الميّت الكمال والنضوج ووصل إلى نهاية الإمكانات، فهو إذن إشكال، ولمّا أدركنا نحن البشر هذا صار الإشكال مشكلة طلبنا حلّها، والموت يا سادة حادثة مطلقة كليّة وجزئيّة، فكلِّيَتُها أننا جميعًا سنموت وجزئيتها أنه لا يدركها تماماً إلا الميّت (فالموت تجربة شخصية بامتياز) والباقي لا يحيط علمه إلا بالاحتضار وأخباره إذا حضره (إدراك الموت في آثاره وليس في ذاته).
وهذا ما يجعل مشكلة الموت شائكة وصعبة وغورًا يصعب سبر ظلاماته. ولأوصاف حال الموت السابقة دعونا ننظر إليه من زاوية آخرى، فنيتشه مثلا قال: إن الموت جزء من الحياة. ماذا يعني هذا؟ إذا قلنا إن المعرفة انفعالية اهتمامية وليست فقط انعكاسية كالمرآة، بهذا نحن نقول إننا لا نحوز المعرفة فقط بتأمل الكون أو بفيض من السماء فقط، بل نحوزها أيضاً بصب اهتمامنا على مسائلها واستسقائها من التجربة والانفعال فيها والتفاعل معها، وهذا مدخلنا إلى فهم الحياة (التي يظنها النّاس ضد الموت) وإذا نظرنا إلى الحياة سيكون المستقبل هو سيّد الموقف في نظرتنا فهو ما يحوز (اهتمام) جميع البشر ويستأثر بتفكيرهم، والمستقبل هو: انتظار القادم وهو الفراغ المستمر الذي نريد ملأه، وهو الدين الذي نريد سداده، هو النقص الذي نريد إكماله.
ولما كان الموت هو مطلق الكمال (الإنساني) الذي لا نقص بعده، كان إذن سر الوجود وذروته بالضرورة، فلا حياة ولا مستقبل من دون الموت، فالموت إذن (من هذه الزاوية) هو ليس النهاية فهو مستمر وموجود منذ البداية (كامن فيها منذ لحظة الصفر) فلولا هذا الوجود لا وجود للحياة، أمّا النهاية فتكون محكومة بفترة زمنية تحصل النهاية بحصولها ولا تكون موجودة قبلها، كما ينهي الرسام لوحته فقبل هذه اللحظة (لحظة النهاية) لا تكون اللوحة موجودة، أمّا الحياة فهي موجودة نتفاعل معها ونلمسها ولا بد لوجود الموت حتى يتم هذا الوجود.
ومن هنا ومن هذه الحقيقة بالتحديد يجب أن نطلّ على الموت ونظرة تراثنا الإسلامي له، من هنا نفهم حبّ الأجداد الموت (يحبون الموت حبكم للحياة) حبًّا للحياة بكل ما تحمله الكلمة للمعنى، ليس كما فهمه البعض تركًا للحياة وكرهًا لها وطلبًا للموت بأي طريقة، بل هو إقبال على الحياة وخلافة الأرض وإعمارها، فهم قوم فهموا الحياة حقًا لأنهم فهموا الموت ولهذا بالذّات في تراثنا لا يكون الموت مشكلة ولا يعامل على أنه إشكال بل إنّهم قسموا أنواعًا للموت فهناك الموت الأحمر وهو: مخافة الهوى والنفس والطبع ووسوسة الشيطان. والموت الأبيض وهو: الجوع، وهو أبيض لأنه ينوّر الباطن ويبيض القلب (البطنة تميت الفتنة). والموت الأخضر وهو: لبس المرقع من الثياب مما يصح الصلاة به ويقصد به (القناعة). والأسود: وهو احتمال أذى الناس ونظر بعين الشفقة عليهم فهم عيال الله.
والأصغر وهو: النّوم، وربطه بالموت الأكبر (الموت المادي) بانفصال الرّوح عن الجسد فإذا سقطت ورقة السّدرة (السجل) التي تحمل اسم الشخص إلى ملك الموت معلنة انتهاء رزقه وانقضاء أجله أمسكت روحه وإلا عادت إلى الجسد بالاستيقاظ. ويقول الصّوفية بالموت المعنوي وهو: تحليق الروح أو الجسد الشفاف الذي يستطيع الإحساس بالحق ولطفه والموت هما يكون قمة الحياة، أما الموت عندهم هو: الحاجب عن أنوار المكاشفات والتجلي فيكون هنا من نظنهم أحياء يرزقون بنظرهم أمواتًا. أجدادنا جعلوا أنواع الموت أحوالًا للحياة لا انقطاع عنها، كانوا يطلبون الموت شوقًا لله، شوقًا للكمال، وكانوا يعمّرون الأرض ويقدّمون للعالمين حضارة نباهيهم بها إلى اليوم.
وما دمنا في أروقة التّراث، فدعونا نعّرج على بعض الرّوايات الدّينية التي تتحدث عن الملائكة الأربعة التي تنتزع الرّوح من أطرافنا الأربعة، وعن ملك الموت الذي تقبع الدنيا بين ركبتيه يحيط بكل ما فيها وينظر إلينا باليوم سبعين مرة، وإذا بلغت أرواحنا التّرقوة يقبضها إليه وعن سكرات الموت، وأن الميّت إذا خُلع عنه جسده استشعر الدنيا وفضاءتها بحواس وحواس لم يختبرها من قبل (فبصرك اليوم حديد)، فهو يسمع ويرى ويتحدث، وعن أوصاف ملائكة الموت المتغيرة حسب الميت مؤمنًا كان أم كافرًا، وعن حياة البرزخ وعذاب القبر أو ثوابه، ونظريّات العوالم المتداخلة وإمكانيّة الكشف التي قدّم العِلم اليوم لها تفسيرات ونظريات تدور حول (اهتزازات الذرات) وربطها بالقدرة على تمييز العوالم والتفاعل معها وتداخلها، كل هذه الرّوايات تقدّم فعل الموت على أنه الرّادع والمذكّر للعباد بيوم الحساب (وإنك ميت وإنهم لميّتون) وعلى أنه القنطرة التي نعبر عليها إلى عالم آخر.
بالنهاية إنّ عالم الموت عالم غامض لنا، حاضر غائب في حياتنا نفكر فيه كلما تذكرنا أُمًّا أو أبًا عزيزًا أو حبيبًا، ودراستنا له أمر لا محيد عنه، فإدراكنا للموت مرتبط بإدراكنا لذاتنا، فكلما أدركنا ذاتنا أكثر زاد اهتمامنا بالموت، ومن دون فهمٍ للموت لن نفهم الحياة، فهو أصلها وعلّتها، والأهم من كل هذا ارتباط الموت بالحرية والمسؤولية وواجب الخلافة، وتمثيله لحد الكمال الذي يمثّل حلم الإنسان الأزلي، الموت هو أعظم الأسرار التي يواجهها الإنسان، ونظرتنا إليه تعكس نظرتنا لأنفسنا وفهمنا لله ولها، فلكل هذا لا بد أن نفهم فقه الموت حتى نتقن فن الحياة ونحسن منقلبنا.
والله من وراء كل مقصد
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.