محاكمة فى أديس أبابا (1/5)

كنت المصرى الوحيد فى تلك الجلسة، وقد شعرت بكل اتهام ظالم سهما ينفذ فى القلب، فما أقسى أن يأتى الظلم من الأقربيين. فى الوقت ذاته، فإن القسوة تتضاعف إذا ما كنت تعلم بالتاريخ الموثق الذى ينفى تماما ما يكال لك ولوطنك من اتهامات. فى تلك اللحظة أدركت المعنى الحقيقى لمقولة: "الألم على قدر المعرفة".

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/20 الساعة 02:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/20 الساعة 02:59 بتوقيت غرينتش

"من يفرط في تاريخه، يسهل عليه مع الزمن أن يفرط في حقوقه السياسية والقانونية وحتى في جغرافيته". إذا أراد المصريون أن يغيروا الواقع البائس الذي وصلوا إليه، فإنه عليهم أن يتحققوا إلى أي مدى تنطبق عليهم هذه المقولة في العديد من المجالات وفي مقدمتها الموقف شديد الحرج، فيما يتعلق بخطر حقيقيي لا يهدد فقط حصتهم الفقيرة من مياة النيل، ولكن الأصح أنها تهدّد بقاءهم.

لا شك في أن السبب الرئيس في الموقف الذي وصل إليه المصريون حالياً من أزمة مستحكمة مع إثيوبيا يعود إلى سعي الأخيرة بقوة إلى خلق واقع مهدد لمصر في الصميم. إلا أن الموضوعية تلزمنا أن نبدأ بحساب النفس قبل أن نحاسب الآخرين، وفي هذا قول مؤلم كثير يبدأ من التقصير في حق النفس ويمر بمراحل حتى يصل إلى ما يمكن أن يوصف بخيانة الذات… كلا، ليس هناك خطأ مطبعي… هي خيانة الذات للذات.

على مدار أربعين عاماً ومنذ منتصف سبعينيات القرن الماضي اكتفت مصر الرسمية في تعاملها مع أفريقيا جنوب الصحراء بمقولة مفادها إن رصيدنا في القارة ضخم لا ينفذ، وذلك لمجرد دعمنا في خمسينيات القرن وستينياته لحركات التحرر الأفريقية وهو قول الحق، ولكنه حق تحول بمضي الوقت إلى تاريخ، والتاريخ دائماً ما يذكر في زمن ماض، متناسين أننا لم نرفع رصيدنا ذلك في الحاضر، كما إننا لم نعط أي إشارات لرصيد في المستقبل.

وعلى أيه حال، فقد خدمنا ذلك التاريخ وإن كان بشكل متراجع، حيث إن الرعيل الأول من القادة الأفارقة حفظوا لمصر الجميل بإيوائها لهم سنوات النفي وتوفيرها الدعم السياسيي والإعلامي. إلا أنه مع رحيلهم، تعاقبت أجيال جديدة سواء من قادة أو شعوب لم يخبروا الدور المصري التاريخي بشكل مباشر، وشيئا فشيئا بدا هذا التاريخ باهتا لا يحرك مشاعر، ناهيك عن كونه لا يرعى مصالح بشكل مطلق.

الغريب أن مصر وهي تسوق لنفسها لدى دول جنوب الصحراء اعتمدت على دورها التاريخي في دعم حركات التحرر الأفريقية، في حين أن أهم دولة بالنسبة لنا – وهي إثيوبيا- معروف أنها لم ترزح تحت الاستعمار إلا سنوات معدودة فقط في بداية ثلاثينيات القرن الماضي.

وحيث إن مصر- للأسف – تعاملت مع نفسها ومع الآخرين فيما يتعلق بأفريقيا وكأن تاريخها لم يبدأ سوى بثورة يوليو 1952 فقد تناست – حتى نسيت بالفعل – أصلا من أصولها الصلبة قبل أن تكون ناعمة فيما يتعلق بموقفها المضيىء في تلك الفترة من دعم مطلق لإثيوبيا ضد استعمار الجهل والتخلف منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية عشرينيات القرن العشرين لكي تبدأ مرحلة أشد تألقا بدعم مطلق على كافة الأصعدة خلال العدوان الإيطالي عليها في بداية الثلاثينيات وطوال فترة الاحتلال التي دامت سنوات معدودة.

في الفترة بين عام 1999 إلى عام 2006 أسعدني الحظ بأن ترددت على إثيوبيا مرات خلال فترة عملي مراسلا لجريدة الأهرام العريقة في أفريقيا جنوب الصحراء. ولا شك فى أن هذه السعادة سيستشعرها أي مصري بوجوده في تلك الدولة لما تتميز به من جمال من نوع خاص حضارة وقيما، أرضا وشعبا؛ وهو الشعب الذي يعد الأقرب لشعب مصر والسودان على كافة الأصعدة، بما في ذلك الملامح الجسدية.

إلا أنه بقدر سعادتي بوجودي في بلد لم أشعر فيه بالغربة الحضارية، ولا الإنسانية، بقدر الصدمة العنيفة التي أصابتني بسبب تلك الصور الذهنية شديدة السلبية التي لا علاقة لها بحقيقة مصر، وخاصة فيما يتعلق بإثيوبيا. ففي العام 2004 حضرت جلسة نقاشية ضمت العديد من الصحفيين والمثقفين الإثيوبيين، حيث كانت الصدمة العنيفة بخروج ما في الصدور، ويا لهول ما تختزنه الصدور!

فوجئت باتهامات تتطاير من عينة وقوف مصر ضد المصالح الاقتصادية لإثيوبيا، ومن أن المصريين لديهم مشاعر فوقية تجاه الإثيوبيين لتعلق الأولين بميراث إمبريالي استعماري، واتهامات أخرى كثيرة، الغالبية العظمى منها لا علاقة لها بالواقع.

كنت المصري الوحيد في تلك الجلسة، وقد شعرت بكل اتهام ظالم سهما ينفذ في القلب، فما أقسى أن يأتي الظلم من الأقربين. في الوقت ذاته، فإن القسوة تتضاعف إذا ما كنت تعلم بالتاريخ الموثق الذي ينفي تماما ما يكال لك ولوطنك من اتهامات. في تلك اللحظة أدركت المعنى الحقيقى لمقولة: "الألم على قدر المعرفة"، بمعنى أنه كلما زادت المعرفة زاد الألم. وإذا التمسنا أعذارا للأخوة الإثيوبيين لنسيانهم تاريخ مصر الحقيقي معهم، فلا يمكن – ولا يجب – إلتماس عذر واحد لمصر الرسمية والشعبية لتناسيها تاريخها المضيء شديد التألق مع إثيوبيا وشعبها؛ فالنسيان خطأ فادح، أما التناسي فخطيئة لا تغتفر وخيانة عظمى للذات.

جلست وقد رسمت على وجهي الهدوء، وإن كان بداخلي بركان ينفث حمما حتى أكمل آخر المتحدثين قائمة اتهاماته التي لم تخرج عما تردد طوال الجلسة من آخرين. بعد أن انتهى الرجل من ادعاءاته، تحول الجمع إليَّ منتظرين ردي. بخلاف غصة في حلقي، فقد استشعرت للحظات بأن مصر بأكملها -بتاريخها وجغرافيتها وسكانها- تضغط على عاتقي بعنف. هي لحظات مضت قبل أن أقول بصوت ثابت: "لقد استمعت، واستوعبت، وإني أقر بكل ما ورد على ألسنتكم من اتهامات".

أصررت أن أمتنع عن مواصلة الكلام بسبب مقاطعتهم لي ترحيبا وتهليلا وثناء على ما وصفوه بأول مصري يعترف بالاتهامات الإثيوبية التقليدية لبلده وشعبه. خلال ثوان، كنت قد اتخذت قرارا بأن أؤمن على ما أتى من افتراءات خلال الندوة، وكان الهدف في الحقيقة تحقيق أثرين:
الأول: أن أخفف من الدفاعات الحصينة لدى الأخوة الإثيوبيين من أن يستمعوا إلى أي شيء يخالف ما وقر فى أذهانهم من أباطيل فيما يتعلق بمصر.
الثاني: إحداث صدمة إيجابية يمكن أن تستدعي استفاقة لوعي بما هو حقيقي من تاريخ مشرّف لمصر تجاه إثيوبيا. وقد كان لي ما قصدته، وتلك قصة أخرى..
( يتبع)

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد