أربعة جدران سوداء خشنة، بينها ثلاث خطوات، ضوء أحمر خافت، بطانية خفيفة السمك، رائحتها نتنة، لباس بني داكن، في أعلى السقف شفّاطان؛ الأول لإدخال الهواء، والآخر لإخراجه، هواؤه بارد جداً، وبابٌ حديدي مصفح وثقيل يعمل بالكهرباء.. هذه زنزانتي التي عشت بداخلها تسعة وعشرين يوماً، عيني تتأمل إحدى هذه الجدران، الذاكرة تخترق المكان لتصبح بين من أرادت بشطحات الخيال، عاد بي التفكير إلى ليلة الاعتقال، ماذا حدث؟
كان السرير دافئاً في ليلةٍ باردة ألتحف غطائي جيداً، أسمع زخات المطر تتعالى ضرباتها، اندمج صوت المطر فجأة بصوت خطواتٍ تقترب من نافذة الغرفة، كلماتٌ بالعبرية، أضواءٌ تخترق النافذة، ضوؤها تبعثر داخل غرفتي، دقات قلبي علا صوتها، حُوصر المنزل وكادوا خلع الباب ببساطيرهم، ازداد الفراش دفئاً كأنه يقول وداعاً، ردت عليهم أمي: "شو في؟ انتظر حتى أضع المنديل على رأسي".
فتحت الباب قائلة: "إيش في صرعتونا شو بدكوا".
قال: أنا الضابط شوقي، أين أحمد؟ قالت أمي: انتظر حتى أوقظه من نومه، اقتحم الجنود المنزل خلفها وصولاً إلى الغرفة، قالت أمي: "قوم يا ابني الجيش على الباب بدهم إياك"، ما زلتُ محتضناً فراشي الدافئ، قاموا بتفتيشي وعاثوا بالمنزل خراباً، لم أستطع أن أبدل ملابسي، قاموا بسحبي خارجاً والأمطار تتساقط، وأنا لا أرتدي سوى ملابس خفيفة، جسدي يرتعش من برودة الجو، قام الجندي بسحبي وتفتيشي مرة أخرى، قيد يديّ إلى الخلف، ضغط عليهما كثيراً حتى أحسست أن أحد الشرايين قد ينفجر، أغمضَ عينيّ وصعدنا إلى الجيب العسكري.
لم أعرف إلى أين، لم أسمع إلا صوت محرك الجيب، كنت قد أحسست بالطرقات التي أعرف حفرها ومزالقها جيداً، فهي كانت تدلني أين نحن الآن!! افترقنا إلى طرق المعسكر، كأن هواء المنطقة قد تعكر بقذارة وحقد بني صهيون، في المعسكر اقتادني جنديان وأنا مقيد اليدين ومعصوب العينين إلى غرفة داخل المعسكر، رموني أرضاً دون فراش ودون أن يفكوا قيدي، كنت حينها ما زلت تحت وقع الصدمة، لم أمنح نفسي وقتاً للتفكير بما يجري، أي شيء هذا؟! ما الذي حصل؟ أهو حلم أم حقيقة؟
كنت مرهقاً جداً، أغمضت عينيّ ونمت في سبات طويل، لكن الجندي الذي يحرسني لم يعجبه نومي، بين كل لحظة وأخرى يصدر صوتاً ليزعجني، فأستيقظ وأعود إلى النوم مجدداً، نمت طويلاً حتى الواحدة ظهراً.
تذكرت حينها آية ذكرني بها أحد الأصدقاء عندما يضيق الحال: "واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً"، كررتها مراراً وتكراراً دون كلل أو ملل، أحسست بأن طاقةً إيجابية قد احتوتني، وشعرت أنني أقوى من كل ما يجري.
في الساعة الثالثة عصراً اقتحم الغرفة ما يسمى "الشاباك"، وحدة عسكرية لنقل الأسرى، قال: "أنت أحمد.. نعم.. يلّا قوم بدنا نفتشك، لأول مرة أشعر بهذا الانكسار، أنا كما ولدتني أمي أمام خمسة من الجنود، تذكرت أن أبي قد وقف يوماً ما مثل هذا الموقف وإخوتي وجميع من بداخل السجن، أحسست بانكسار أكبر، ارتديت ملابسي سريعاً، وبدأت أردد: اللهم اجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً؛ لأعيد بعضاً من الانكسار للعزة والشموخ، انطلقنا بما يسمى "البوسطة"، وهي سيارة معدة خصيصاً لنقل الأسرى.
لست أدري إلى أين، وعلى أية حال فأنا لست في طريقي لنزهة أو للبيت، تعجبت جداً من البوسطة، فمنظرها الخارجي يوحي بأنك ستدخل إلى أفخم أنواع السيارات، لكني تفاجأت عندما رأيت كرسي الحديد المشبك، الذي يكاد يخترق الجسم، نظرت من شباك البوسطة الصغير الذي يعلوها، مجلفن بالأسود ومحمي بالشبك، تعجبت من جمال بلادي المحتلة، وكيف سلبوا أرضنا وهجّروا شعبنا، وبلمحة سريعة رأيت قبة الصخرة المشرفة، دق قلبي فرحاً، أنا في القدس! ياااه سنوات طويلة لم أرَ قبة الصخرة المشرفة، ولم أشم رائحة القدس، أنا في رحلة أم ذاهب إلى غيابات الجب؟
ولم تفكيري السحيق ينغص عليَّ فرحتي، لقد رأيت قبة الصخرة!
توقفت السيارة فجأة الأصوات جميعها بالعبرية، أدركت أننا قد وصلنا مركز التحقيق، دخلنا الأبواب الثقيلة المقفلة واحداً تلو الآخر كأنني أدخل نفقاً تحت الأرض، رائحة كريهة، دخلنا ممرات عدة وأنا معصوب العينين كأنها متاهة، الجندي ممسك بالكلابشات في يدي، مرة يسرع ومرة يبطئ لأتعثر به أحياناً، كان باب الزنزانة مفتوحاً ينتظرني، دخلت الزنزانة، بدلت ملابسي بلباس السجن البني الداكن، لم أتخيل أن شكل الزنزانة بهذا الشكل كما وصفوها لي لم أتخيلها بهذه الصورة من القذارة.
يفتح السجان الباب: أحمد.. نعم، يلا تعال المحقق بدو ياك، أغمض عينَيّ، وكلبش يدَيّ، اقتادني إلى غرفة التحقيق، جلست على الكرسي الحديدي ظهره شديد الانحناء، يداي إلى الخلف، مكلبشات بظهر الكرسي، ظهري منحنٍ كالقوس، أزال العصبة عن عينيّ ضابط يهودي أشقر طويل، ذو عينين خضراوين أصلع، وجهه يملأه النمش، ضحكته صفراء، يدعى ميرون.. أهلاً أهلاً أحمد، لم أكترث لترحيبه ولم أتفوه بأي كلمة، شو في أشي زاعجك؟ وأنا لا أجيب، فقط أكرر في داخلي: "اللهم اجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً".
سألني كيف كان أول يوم لك بالزنزانة هل أعجبك الوضع؟ نحن الشاباك الإسرائيلي لدينا مميزات في زنازيننا ومريحة جداً، اطلب ما تريد، أتريد شيئاً محدداً، اطلب لا تخجل؟
لا أريد شيئاً فقط أخرجني من هنا.. ههههه ضحكة نتنة، لف كرسيه الدائري وتعالت ضحكاته، ضرب بيده على الطاولة صارخاً: "أحمد هو دخول الحمام مثل خروجه؟".
واستطرد قائلاً: لن أطيل الحديث، سأختصر عليك مسافات طويلة وفترة كبيرة من التحقيق، نحن هنا نعرف كل شيء، لكننا نحب أن نسمع منك القصة، هيا أحمد قل لي ماذا فعلت؟ أنا أنتظر الإجابة، هيا تكلم تعاون معنا قبل أن أعيدك إلى الزنزانة التي أحببتها.
أنا لم أفعل أي شيء، إذا كنت تعرف ماذا فعلت قل لي وأنا أجيب إن كان صحيحاً أم لا، أنا لا أتذكر أي شيء. رفع صوته عالياً: اصمت أنا الذي أسأل هنا فقط، ضرب بيده على الطاولة ووقف عن كرسيه الدائري، بدأت شرارات الغضب تخرج من عينيه، صمت طويلاً، وقال: سأتركك تذهب إلى الزنزانة لترتاح قليلاً وتفكر، ثم اقتادني السجان وهو المعروف داخل السجن بـ"السوهير" بعد أن أغمض عيني وكلبش يدي مروراً بنفس الممرات إلى الزنزانة.
عندما وصلت الزنزانة تمددت على فراشي وبقي عقلي يردد: اللهم اجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً حتى غفت عيناي، أفقت من نومي بعد وقت، تفاجأت أين أنا؟ لقد كنت في المنام أرتدي ملابسي للذهاب إلى رحلة، أي رحلة هذه وأنا هنا بين أربعة جدران سميكة وخشنة لا تستطيع أن تتكئ عليها، كأني في بئر، أو في باطن الأرض، لقد قال لي المحقق سأدعك قليلاً لتفكر هل انشغل عني أم أنه يريدني أن أحترق بالتفكير؟ أنا هنا أضرب أخماسي بأسداسي، لمَ هذا الهدوء؟ أهو الهدوء الذي يسبق العاصفة، هل سأبقى أفكر هكذا حتى أضعف وأنكسر وأنفجر بما لدي؟ ماذا سأفعل لأخرج من هذه الدوامة وتلف الأعصاب؟ سأشغل نفسي بأي شيء حتى لا أفكر كثيراً، سأقوم بعد فتحات الشفاط، عددت الفتحات مرات عدة ونفس النتيجة لقد فزت، إنها كثيرة جداً ومتقاربة.
عند المساء، فُتح الباب ببطء، أصوات مختلفة خلف الباب، أهو العشاء أم محقق أم زائر؟ إنه نضال، شاب هادئ في الثالثة والعشرين من العمر، يرتدي نظارات، ذو لحية خفيفة وعينين سوداوين، رد السلام وتمدد على البطانية التي بجانب بطانيتي، أغمض عينيه وعم الصمت ساعة أو ما يزيد، ثم انفجر فجأة بالشخير، يعلو ثم يهبط، إنها موسيقى مزعجة، شعرت بأن روحه ستخرج من علو أنفاسه وانقطاعها، يعمل كالآلة المزعجة، لم أنم للحظة واحدة، لم يهدأ صوته إلا عند فتح الباب الثقيل.
نودي عليّ: أحمد.. نعم، تعال يلا.. إلى أين؟ إلى شوارع يافا نشم الهواء، ممنوع تسأل، أريد أن أعرف إلى أين سأذهب، لا تخف لن تضيع أنت مع الشاباك الإسرائيلي، كلبش يدي واقتادني إلى غرفة تحقيق كالسابقة، لكنها تحتوي على جهازين من الحاسوب، "فاكسمان" طويل وأبيض شعره أشقر ووجهه شاحب كأنه لم يبتسم منذ قرن، صوته عالٍ ومتعجرف، فتح الباب، أتريد شيئاً تشربه، سألني، قلت: لا.
وقف أمامي لما يزيد عن نصف الساعة يحدق في عيني، دقات قلبي تتعالى، ماذا سيقول، لم يتحرك أي شيء في وجهه، عيناه لم ترمشا ولو للحظة واحدة، قال بصوت عالٍ: أنت مخرب، أنت إرهابي، أنت مخرب كبير.. كل هذا والغضب يخرج من عينيه، جلس على الكرسي قائلاً: لن أنتظر كثيراً، قل لي كل شيء فأنا أعرف كل شيء عنك، لماذا تنظر إلي هكذا هيا تكلم.
أنا لم أفعل شيئاً ليس عندي ما أقوله، أحمد، أنا لا أريد أن نطيل ونتعب ونتعبك، فقل لنا كل شيء لننهي الملف، أعدك إذا تكلمت سوف أوصي عليك بالنيابة؛ لأنك تعاونت معنا، ماذا هل ستقول شيئاً؟ لا شيء عندي. أنت كالطفل الصغير تعاند وتكابر، وأنا أعدك بأنك سوف تأتي زحفاً لتخبرني ماذا فعلت، لم يكن يعلم أنه اصطدم بأقوى صخور الأرض "القلب الفلسطيني"، الآن سوف تذهب إلى الزنزانة ولن أستدعيك إلى هذه الغرفة حتى تطلبني أنت، وتقول لي أريد أن أعترف بكل شيء، أريد المحقق أريد أن أخرج من هنا سأعترف.
قام السجان "السهير" باقتيادي إلى الزنزانة، لكنها زنزانة جديدة قريبة من الحمام اللعين، المياه فيه إما متجمدة وإما ساخنة كلهيب النار، إنه حمام القذارة لتخرج متعفناً أكثر، شامبو الاستحمام في كيس صغير به بعض قطرات الشامبو، لست أدري أهو للاستحمام أم لجلي الصحون، شعري الكثيف والطويل الذي تسارع طوله يوماً بعد يوم من الرطوبة القاتلة لم تحظ إلا أطرافه بالشامبو، وجسدي مخير بين التجمد أو الاحتراق.
هذا الحمام نخرج إليه من زنازيننا يومياً، واحداً تلو الآخر لدقيقتين أو خمس دقائق؛ لنعيد ارتداء لباس الزنازين في كل أسبوع مرة واحدة، في كل مرة مقاس جديد.
المفاجأة الجميلة في هذه الزنزانة أني وجدت القرآن الكريم بداخلها، وأي مفاجأة هذه أن أحظى بكتاب الله في هذا الوقت الممل لأشحن طاقتي، وأستطيع المواجهة والصمود، حينها قلت: لنرَ من سيصرخ أولاً أنا أم المحقق؟
ثمانية أيام لم أخرج من زنزانتي إلا للاستحمام، لم أتكلم مع أحد، ولم يزُرني أحد، كم كنت أتوق للجلوس مع نفسي، يا لكم من أغبياء، إنها خلوة أخلو بها مع الله، ذكر واستغفار وقراءة قرآن، كأنها أول مرة أفتح بها كتاب الله، لذة ما بعدها لذة في هذا الضيق والتعب والأعصاب المتوترة.
صليت الضحى، وذكرت الله مردداً دعائي الذي تعودت عليه: "اللهم اجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً"، فُتح الباب مرة أخرى، إلى التحقيق مجدداً، إنه "حيزي" قصير القامة، شعره أسود، عيناه سوداوان، خبرة عالية مع أنه في مقتبل العمر، لم يتجاوز الثلاثين عاماً.
باشرني بالحديث: آاااه يا أحمد، بتعرف أنا بأي مركز تحقيق كنت قبل ما أنتقل على المسكوبية؟! وأنا شو بعرفني، كنت ببئر السبع أقوى مراكز التحقيق، وأنا شو دخلني، قال: أنا ما بحقق إلا بالأمور الكبيرة، أنت مخرب كبير، مين معك بالخلية؟ كم واحد كنتو؟ ووين حطيتوا السلاح؟! نبرات صوت واثقة مع صوت مرتفع، إنه يضرب على الوتر الحساس يهول الأمور كثيراً بما لم أفعل لأعترف على الأمور التافهة، فُتح الباب فجأة، المحقق ميرون يعود مجدداً: أهلاً أحمد انت لسَّه هون، لماذا لا تتعاون وتنتهي بأقل الخسائر، لا أريدك أن تطيل يا أحمد، تعاون مع الكابتن حيزي لا تغضبه، حيزي قوي جداً لا تعانده، ثم يفُتح الباب مرة أخرى وجه جديد أصلع، ذو عضلات وجسم رياضي قوي، تجاعيد وجهه كأنها لم تتحرك منذ أمد طويل، الجنرال رئيس المحققين في زنازين المسكوبية، حيزي قائلاً: أهلاً أهلاً جنرال، انظر لهذا الطفل إنه يعاند كثيراً ولم يتعاون بأي شيء حتى هذه اللحظة.
سألني عن اسمي، ومد يده لأسلم عليه، مددت يدي، ثم وضع عينيه في عيني قائلاً: أنت طفل عنيد، نحن نعرف كل شيء، أحمد القانون هنا يقول كلما تأخرت بالزنازين تأخرت بالسجن المركزي وزادت محكوميتك، تعاون مع المحقق حيزي، وأنا سأعود وستكون أنهيت كل شيء حسناً، لم أتفوه بأي كلمة، خرج هو وأنا جلست على الكرسي مكلبش اليدين منحني الظهر. آه أحمد هيا تكلم قبل أن تغضب الجنرال.. ماذا أقول لا أعرف ماذا تريدون؟ أنت كمحقق قل لي ماذا تعرف وأنا أجيب إن كان صحيحاً أم لا!
أنت إلى أي التنظيمات تنتمي؟ قلت: لا أنتمي إلى أي حزب، أنا أشارك في جميع الأعمال الوطنية ولا أحب التفرقة بين أحزاب شعبية، في أية دولة يوجد اختلافات، فعندكم يوجد اختلافات بين اليمين المتطرف وحزب الليكود الإسرائيلي أنت إلى أي منهما تنتمي؟ ضحك المحقق، أتحسب أنك ذكي وتقلب الأسئلة، أنا أسالك إلى أي حزب تنتمي؟ كررت إجابتي: لا أنتمي إلى أي حزب. على فرض أنك لا تنتمي إلى أي حزب لكن من ترغب به أكثر وتؤيد أفكاره أكثر؟ جميع الأحزاب الفلسطينية تنتمي لنفس الهدف، ولكن لكل منهجه. تناول المحقق أربعة أقلام ووضعها على الطاولة بجانب اللوح، وقال: في أي الألوان تحب أن أكتب لك؟ في أي منها لست مكترثاً بذلك، أحمر أم أخضر أم أصفر أم الأسود، أعلم أنك تحب الأخضر أكثر، حتى إن جرابك لونها أخضر. أنا ضحكت بصوت عالٍ، هذه الجرابين من السجان هو من أعطاني إياها، لم أحضر جرابين من البيت، ثم رسم باللون الأخضر خمسة خطوط بشكل طولي، سائلاً إياي: هذا الجدار أنت خلفه وتريد الوصول إلى هدف بعد هذا الجدار، كيف تستطيع أن تفعل هذا؟
أجبته: سأقوم بإحضار منطاد.. أعِد ماذا قلت! علمت أنها كلمة جديدة عليه ولم يسمعها من قبل، في تلك اللحظة فُتح الباب، عاد الجنرال مرة أخرى، قل للجنرال ما هي الكلمة التي قلتها الآن، أجبته المنطاد، تحدثوا بالعبرية طويلاً ثم ذهب الجنرال قائلاً إنه ذاهب للبيت.. تذكرت أهلي وما يفعلون الآن، شرد ذهني قليلاً، ناداني بصوت مرتفع، في شو مسطل، وإذا لم يوجد منطاد كيف ستصل للهدف؟ في طائرة، أم ستحفر نفقاً أم تحضر سلماً، أنت الآن خلف هذا الجدار، وأنا أطرح عليك هذه الحلول لتستطيع أن تخرج من هنا.. أنا قلت لك في البداية وقلتها لجميع المحققين، قل لي ماذا فعلت؟ وأنا سأخبرك إن كان صحيحاً أم لا، حسناً إلى أي حزب تنتمي؟ قلت لك لا أنتمي إلى أي حزب، أنا أشارك في كل شيء وطني، أنت كاذب لدينا الكثير من المعلومات تقول إنك تنتمي لتنظيم معين وقد شاركت بفعالياتهم.. قلت لك أنا لست من أي تنظيم، أنا أشارك في جميع الأعمال الوطنية ولم أشارك بشكل تنظيمي. غدا ستكون محكمتك وسيقدم ما قلته هنا للنيابة لننهي الملف وتنتقل للسجن المركزي، يجب الانتباه جيداً عندما تقدم لائحة الاتهام، أي تلاعب يقلب الموازين، عدت إلى زنزانتي مجدداً.
في الصباح الباكر وبعد نوم طويل، اقتادني السهير إلى البوسطة وقاموا بتفتيشي، كان الجو بارداً لا أرتدي إلا لباس السجن اللعين، بدأت قدماي ترتجفان من البرد، البوسطة ممتلئة بالسجناء، جلست على كرسي وحدي لا أحد بجواري، توقفت البوسطة وقمنا بالنزول واحداً تلو الآخر، الكلب أمامنا يعلو صوته عند الاقتراب منه، جلسنا في غرفة الانتظار بالمحكمة، يجتمع بها سجناء السجن المركزي والزنازين، أحسست أن أمي وأبي في انتظاري بالمحكمة، شعرت بالأمان والبقاء.
تمنيت أن أبقى داخل الزنزانة ولا أنتظر هذه الساعات في هذا البرد، نافذة الغرفة كبيرة ليس لها زجاج، لا بطانيات ولا مرحاض، تعب شديد أصابني، شعرت بالبرد، استلقيت على سجادة لأحد السجناء ونمت طويلاً.
أحمد موجود؟ قمت بلهفة وشوق، أنا هنا أنا هنا، يلّا تعال، اقتادني خلفه في ممر طويل إلى ساحة كبيرة محاطة بالحديد، مرآة في أول الطريق، وقفت أتأمل وجهي الذي لم أرَه منذ أسابيع، شعري الكثيف، ووجهي الأبيض، عيناي الذابلتان، وكأني أبدو في الثلاثين من عمري، انتظرنا في غرفة بجانب قاعة المحكمة، نظرت من طرف باب المحكمة، رأيت أمي وأبي يجلسان على الكرسي داخل المحكمة، هرعت دموعي دون أن أشعر بهما، أمي.. كم أشتاق أن أحتضنك وأن أقبِّل يديك، مسحت دموعي ودخلت رافعاً بيدي إشارة النصر، رددت التحية على والدي، لم ألقِ اهتماماً لأحد، لم أسمع ما قاله القاضي ولا المحامي، عيناي لم تفارقا أحداً منهما، اقترب والداي لأسلم عليهما، لكن الجندي منعهما، رفعا إشارة السلام من بعيد، ضحكتي لم تذهب عن وجهي، أشعرتهما أن كل شيء على ما يرام، وشعرت بالطمأنينة عليهما.
حكم القاضي بتمديد سبعة أيام أخرى على ذمة التحقق من الأقوال، ودعتهما ثم خرجا من المحكمة، انتظرت خلف باب المحكمة لأتسلم ورقة الاتهام، قال المحامي وهو خارج من المحكمة: استمر على هذه الأقوال وأعدك بالإفراج، اقتادني إلى غرفة الانتظار، ثم سرحت في التفكير.. بعد أن أنهى جميع السجناء محاكمتهم صعدنا إلى البوسطة ليلاً، لأول مرة أرى فيها السماء بهذا الجمال، رأيت القمر وشكوت له همي لأنتزع منه قليلاً من الصبر.
لم يتبق إلا يومان للمحكمة، يقترب الموعد أسرع فأسرع، لهفة وشوق لرؤية أهلي وسماع الحكم، والخروج من هذه الزنزانة.. في اليوم التالي، أحمد هيّا تعال، كلبش يدي وعصّب عيني، إنها ممرات التحقيق، غرفة التحقيق مرة أخرى ماذا يريدون! لقد أنهينا كل شيء.
يحيى.. شعره أشقر عيونه خضراء واسعة ملامح وجهه ساكنة، جفنه لا يرمش، أحمد كيف حالك؟ بخير، كيف تجربة الزنازين؟ قاسيةٌ جداً لكنها أحياناً راحة للنفس، هل تحب أن تعود لها مجدداً.. لا عندما أخرج من هنا لن أعود، ماذا ستفعل عندما تخرج؟ سأنهي تعليمي وأبني بيتاً وأكون عائلة، لن تفكر في شيء يعيدك إلى هنا؟ بالتأكيد لا، إنها مرحلة اطمئنان قبل خروجي من هذه الزنازين.. أنهينا الحديث وعدت إلى الزنزانة.
وغططتُ في نوم عميق واستيقظت مبكراً أنتظر بوسطة المحكمة، انطلقت البوسطة وصولاً لمحكمة عوفر، أبي وأخي كانا بالانتظار، السماء تمطر، وجسدي يرتعش من البرد، لباس الزنازين خفيفٌ جداً، خفت أن أمرض، ثم دخلت المحكمة راسماً ابتسامة على وجهي، سمعنا جيداً للحكم "إفراج بكفالة مالية 2000 شيقل" مع الإفراج الفوري عند دفع الكفالة، صدر قرار بتمديدي يوماً آخر إلى حين دفع الكفالة.
العودة إلى الزنازين مرة أخرى، سميتها "زنزانة الجحيم في يوم الإفراج"، الزنزانة رطبة نستنشق التراب، امتلأ الحلق بالتراب عند كل كلمة تخرج، ناديت وطرقت الباب بكل قوة، لكن لا مجيب ولا أحد كأنني في باطن الأرض.
في صباح اليوم التالي فُتح الباب، أحمد ارتدِ ملابسك، دق قلبي فرحاً، سأرى ضوء الشمس والقمر وأستنشق الهواء، سأنام في فراشي الدافئ، وآكل من طعام أمي، سينحل القيد عن يدي وأمشي بلا قيود في قدمي، أقفز عالياً من الفرح، أحتضن أمي وأبي وأهلي وأصدقائي وأحبتي.. أحلق شعري وأشم رائحة عطري.
صعدت في الجيب العسكري.. دون كلابشات ولا عصبات عيون، ابتسمت وكان الفرح قد غمرني، انتصرت على هذا الشاباك اللعين، نظر إلي الجندي باستهزاء قائلاً: ستعود إلى هنا بعد شهر أو شهرين أو سنة، ستعود حتماً.. لم أعرِه اهتماماً، ولم أجبه بشيء.. أوقف الجيب عند مفترق الطريق، وقال: سِر حتى أراك على طرف الشارع المقابل.. طرت من الفرح وسجدت شاكراً داعياً الله بالفرج القريب لأسرانا البواسل.
هذا أحمد، من ضجت بوابة بيته في إحدى ليالي الشتاء ببساطير الجنود المدججين بالسلاح، ليعيش بعدها تسعة وعشرين يوماً من الوجع.. صراع نفسي، ووجع جماعي يعيشه كل من يعرف أحمد.. عشرات الآلاف، ممن سُلبت أيامهم ولياليهم الدافئة، وبُدلت ببرد وجحيم.. كمياه الحمّام في الزنزانة، إما أن تكون لهيب نار أو شديدة البرودة.. أحمد، هو حنظلة السجن.. هو عشرات الآلاف الذي قيدت أيديهم وأرجلهم، وأغلقت عيونهم خشية أن يروا النور أمامهم.. آثر أحمد أن يكتب لكم تفاصيل تسعة وعشرين يوماً من الأسر، وهو يدرك أن كل حبر أقلام العالم وأوراقه لا تعبر عن رائحة الفراش الخفيف الذي ينام عليه السجين.. على سبيل المثال.
لكن رسالة تكمن داخل سطور هذه القصة، تحاول أن تسلط الضوء على قضية قد تنسى أحياناً، أو تُكتب على هوامش الأولويات، ولا شك أبداً، أن أحمد الذي يجلس الآن في الزنازين ينتظر محاكمته، وأحمد المحكوم بالمؤبد، وكذلك مَن سُجن بحجة ملف سري وصار أسيراً إدارياً، سيفجر أبواب الزنزانة يوماً، ويخرج محطماً أسوار السجن؛ ليرى النور إلى الأبد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.