الأرصفة تخبركَ عن مدينتكَ

الهامش هو فرصة الناس للتعبير عن آرائهم على صفحات كتبها غيرهم، الرصيف هو هامش المدينة الذي يُمَكن الناس من أن يكونوا جزءاً من مدينتهم، كتاب بلا هامش هو كتاب ستتلفه بتعليقاتك، ومدينة بلا رصيف، هي مدينة ستتلف ناسها!

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/25 الساعة 02:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/25 الساعة 02:05 بتوقيت غرينتش

"امشِ ع الرصيف" وصية الأمهات الصباحية التي تاهت معنا في بحثنا عن الأرصفة.

تفصيلة الرصيف الإنشائية جاءتنا في امتحان إنشاء مبان "2" أيام الجامعة، لا أذكر حينها إن كنت مهتماً بإتمام الامتحان أم أني كما العادة تجاوزت الأسئلة لسؤالي الخاص: ترى متى سأبني رصيفي؟

"للسيارات حظّ في المدينة أكثر منّا"، أذكر أني سمعت هذا في محاضرة للمعماري بلال حماد، قال أحدهم معلقاً: إن أردت أن تقطع عمّان مشياً ستَقطعُك مدينة بلا أرصفة.

يقولون الرصيف هو الوجه الإنساني للمدينة، صديقتي تخبرني عن "صوت الرصيف"، لكلّ رصيف صوته الخاص.. أما سمعت؟ سَأَلَتْ! ابْتَسَمْت. وقع أقدامنا على الأرصفة أصبح يعنيني.

عندما أمشي معها على رصيف مريح، تزدهر بنا الأمنيات، قد نجلس لساعات عليه ونشتهي كأس كاكاو، وجدل مخففّ عن غضبٍ متبادل عصف بنا أثناء الحياة، لا عجب أن الأعمال الأدبية لا تخلو من أرصفة دارت عليها الأحداث الفارقة من لقاء وفراق ونظرة أخيرة لوداع.

برفقتي طفلة صغيرة بالكاد أتقنت المشي والغناء، حين ترافقني أحاول أن التزم الرصيف حفاظاً عليها، كثيراً ما يخذلنا الرصيف، فأضطر لحملها بدلاً من منحها فرصة أن تمارس مهارتها الوليدة، تلك المرة سعدت بمرافقتها على رصيف، ولشدة سعادتي قلت لها: غنِّ.. خطوات وتعثرت.. صحيح كان هناك رصيف، ولكنه كان كذلك مليئا بالميلانات المطلوبة لعبور السيارات إلى كراجات المساكن، لدينا رصيف لا نقدر أن نسرح معه بأغنية، أومأت لي بعينيها بأن لا أهتم، ولكنها توقفت عن الغناء.

المعماري الكندي آرثر إريكسون يقول: الرصيف ليس جملة مادية من البناء المجرد، هو أكثر من ذلك، هو روح المدينة الذي يحوي حركتنا ويحرّكنا ويحرّك فينا، وقالوا: "مدينة بلا أرصفة" عندما أرادوا في أدبنا العربي أن يصفوا: الوطن الذي اتسع وضاق بنا!

لأكثر من خمس سنوات وأنا أمشي كل أسبوع مع مجموعة لرياضة المشي السريع، لففنا عمّان حارة وراء حارة ومشيناها بيتاً بيتاً، لامسنا كل شيء فيها تقريباً.. كل شيء بعمّان كان ساحراً مسائياً بعبق الحجر المعتق وأوراق الحور الناعسة وإضاءات الأعمدة الصدئة الخافتة التي بالكاد تلامس درجات الجبل لترسم أفقاً إلى حلم لا نهاية لِعَمَّانِه.. لكنها الأرصفة، التشوه العمَّاني الأبرز الذي يخيفنا ويترّبص بنا، كنا دائماً ما نحذِّرُ بعضنا من الوقوع ضحية رصيف شاهق أو رصيف مغلق أو رصيف مكسور أو رصيف مشوّه.. مدينة أعطت أبناءها كل حلم، كيف عقّها أبناؤها بأرصفة كهذه؟!

لا بدّ أنّ كل ساكن بعمّان مرّ بتجربة ارتطام باب سيارته برصيف بناه أحد الأغبياء دون قياس لارتفاع أو إتقان لاتجاه أو حساب لانحدار أو اتصال.. عادة عمّانية أنانية أن يغلق الناس أرصفتهم بالأشجار غير المقلّمة ليبعدوا الناس عن المرور بمحاذاة بيوتهم، تريدون أن يهبكم الخالق جنة عرضها السماوات والأرض وأنتم تضنون برصيف على عابر سبيل!

الرصيف هوية المدينة، هوية المارين، تحياتهم، خطواتهم ومشاويرهم المسائية، الرصيف حضارة وثقافة، هو يتعدى كونه مظهراً عمرانياً لمدينة كاملة ولكنه أكثر ما في بنية المدينة للمشي والتفكير والتفكر.. هو صانع الثقافة.. ومُوجد الجوّ العام، أسوأ المدن تلك التي تحرمك من استخدام قدميك وعقلك أو كليهما معاً!

حرب الخليج الثانية.. انتفاضة الأقصى.. احتلال العراق.. وثورات ربيع حلمنا، كل حدث منها رحل إلى صفحات التاريخ تاركاً بقايا خطوات حفرت ظلال نقاشاتها على أرصفة حاراتنا المُكسرّة.

الهامش هو فرصة الناس للتعبير عن آرائهم على صفحات كتبها غيرهم، الرصيف هو هامش المدينة الذي يُمَكن الناس من أن يكونوا جزءاً من مدينتهم، كتاب بلا هامش هو كتاب ستتلفه بتعليقاتك، ومدينة بلا رصيف، هي مدينة ستتلف ناسها!

بعض المدن بأرصفتها، وكأنها بنيت لتمنحنا ذاك الرصيف، في أرصفتها تجد المعنى أكثر مما تجده في معالمها السياحية، المعمار الذي لا يبدأ بالرصيف وينتهي إليه، لا يدرك كنه عمارته، الرصيف هو حجر البداية وجملة النهاية لأي رواية معمارية، الرصيف هو أن تتقن عمارتك، هو أن تربطها بنسيج المدينة وأن تجعل المدينة جزءاً من حبكة فراغك.

عندما نستطيع بناء رصيف حقيقي، سنلتزم وصايا الأمهات، ونتصالح مع إجابات إنشاء مبانٍ، وسيكون السياسي أقرب لحواراتنا الإنسانية، وستُكمل طفلتي أغنيتها، وستزدهر الأمنيات ونحظى بفرص أكبر لمواجهة الغضب، وسيكون لنا في مدينتنا نصيب من مشاوير وذكريات!

عندما زرت الكويت أخيراً، سألني أحدهم: كيف ترى المدينة؟ قلت: تعالَ نمشي على أرصفتها لنعرف في أي المدن نحن.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد