هل موسكو قادرة على تحمُّل حرب جديدة في القوقاز؟

توقفت الحرب بالتوقيع على اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في عام 1994م، ولكن لم يتم التوقيع على اتفاق سلام إلى اليوم بين أذربيجان وأرمينيا، ويتعرض وقف إطلاق النار باستمرار للخرق، ولعل أعنفها كان قبل أيام.

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/19 الساعة 02:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/19 الساعة 02:30 بتوقيت غرينتش

شهد إقليم ناغورني كاراباخ أول نزاع بين الجماعات الإثنية في الاتحاد السوفيتي السابق، وأدى الصراع بين أرمينيا وأذربيجان على هذه المنطقة إلى تهجير نحو 300 ألف أرميني، و600 ألف أذري من المنطقة، ما دفع البعض إلى وصف النزاع بالعرقي.

وتشغل هذه الأزمة اهتمام روسيا أيضاً؛ إذ إن الجالية الأرمينية في روسيا هي الأكثر عدداً بين الجاليات الأرمينية في سائر بلدان العالم الأخرى، ويقدر عدد الأرمن في روسيا بمليوني شخص، كما تمثل الجالية الأذرية في روسيا عاملاً مهماً في التنمية الاقتصادية لأذربيجان؛ إذ قدر الباحث الروسي غرينبرغ إجمالي تحويلات الأذريين من روسيا إلى وطنهم بما يتراوح بين 1.8 و4.2 مليار دولار أميركي في السنة.

روسيا في حاجة إلى أرمينيا كحليف تقليدي، إضافة إلى أنها تدخل مع موسكو في منظمة الأمن الجماعي، وتحالفات اقتصادية إقليمية أخرى، وفي ظل النزاع الجورجي – الروسي، موسكو كذلك تحتاج إلى أذربيجان كبلد يحتل موقعاً جغرافياً سياسياً مهماً.

ويعتبر مراقبون هذا النزاع تنافساً "جيوسياسي" لا يشمل الأرمن والأذر وحدهم، بل يتجاوزهم إلى الأتراك والروس والولايات المتحدة وإيران والاتحاد الأوروبي؛ حيث يشكل هذا النزاع في الواقع واحداً من مسارح صراع النفوذ بين الروس والأميركيين في جنوب القوقاز، ومع تراجع النفوذ الروسي في جنوب القوقاز بعد أن أخذت كل من جورجيا وأذربيجان في الابتعاد عن موسكو، حين بدأت تعاوناً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً مع الغرب، وحدها أرمينيا، وخشية مما تعتبره "عدوها التاريخي" تركيا، تتردد في سلوك هذا الطريق صراحة، فهي أبرمت مع روسيا تحالفاً طويل الأمد لبقاء القواعد العسكرية الروسية في أراضيها، وهذا ما دفع البعض إلى اعتبار نزاع كاراباخ استمراراً لعداء تاريخي محملاً بإرث كبير من الكراهية الدفينة من الأرمن لكل من الأذر والأتراك.

وتحدث جان غيراس تحت عنوان "المبادلة المستحيلة بين أرمينيا وأذربيجان" عن حل للأزمة ترعاه الولايات المتحدة، تمنح بموجبه أذربيجان معبراً إلى الجزء الآخر من أراضيها، في مقابل اعترافها باستقلال كاراباخ، وستكون تركيا أول المستفيدين من حل كهذا لأزمة كاراباخ، فزوال الحاجز الأرميني سيسمح لها، عبر منطقة ناخشيفان، بتحقيق اتصالها مع أذربيجان والجمهوريات الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى لتصبح قوة إقليمية كبرى، وقادرة على مواجهة التأثيرين الروسي والإيراني.

تفقد أرمينيا من جهتها عبر هذا الحل رابطها الجغرافي مع إيران، وهو الرابط الذي سمح لها بتجاوز الحصار الذي فرضته عليها أنقرة وباكو، وبالطبع هذا الحل لا يحظى بتأييد موسكو وطهران، وكانت أذربيجان وتركيا قطعتا علاقاتهما الدبلوماسية مع أرمينيا وأغلقتا حدودهما معها رداً على دعم يريفان لانفصاليي إقليم ناغورني كاراباخ الأذري الذي تسكنه غالبية أرمنية، وما زالت أرمينيا وأذربيجان في حال حرب رسمياً حول الإقليم.

وباتت مشكلة كاراباخ منذ اندلاعها الشغل الشاغل لأرمينيا وأذربيجان، فأي حدث سياسي داخلي فيهما له صلة بالصراع على كاراباخ.

تعيش أرمينيا اقتصاداً مأزوماً، ما أدى إلى تصلب موقف النظام السياسي الرسمي تجاه نزاع كاراباخ؛ إذ أضحى هذا النزاع ورقة رابحة بيده يستغلها لإثارة المشاعر القومية ويستغلها لزيادة شعبيته المتآكلة.

أما النظام السياسي في أذربيجان فإن نحو 20% من أراضيه محتلة، ويواجه شعوراً لدى قطاعات واسعة من الشعب الأذري بالخوف من احتمال إمكانية تفكك دولتهم، وأن هذا التفكك يبدأ بضياع كاراباخ، والأقاليم الستة الأخرى التي فقدتها في الحرب، وبالتالي فهم واثقون بأن مستقبل وحدة أراضيهم يكمن في القرار الملائم المتعلق بنزاع ناغورني كاراباخ، ومن هنا يواجه النظام الأذري صعوبة في القبول بأي سيناريو من سيناريوهات التسوية المعروضة التي قد لا ترقى لتلبية رغبات شعبه وتهدئة مخاوفه.

قد لا يبدو أن باستطاعة إيران وأرمينيا أن تكونا شريكتين، ومع ذلك فالواقع يشير إلى أن علاقات إيران بأرمينيا تعتبر أقوى من تلك التي تربطها بكثير من الدول الإسلامية المجاورة.

ويبدو أن الضرورة تسير بطهران ويريفان في اتجاه بعضهما بعضاً، فإيران في حاجة إلى أرمينيا لتوفير معبر بديل للنقل إلى روسيا وأوروبا، وأرمينيا بدورها تواجه انسداداً متواصلاً في طرق التجارة من جانب أذربيجان وتركيا، وهي معنية بتأمين ممر آمن وموثوق للتجارة.

وتشعر كل من تركيا وأذربيجان بالقلق من الشراكة الأرمينية – الإيرانية، ومصالح تركيا وأذربيجان في مجال الطاقة تضع كلاً منهما على النقيض مع إيران، وفي السياق نفسه فإن من شأن العلاقات الأرمينية – الإيرانية أن تؤثر على المصالح الاقتصادية لروسيا.

يقدر عدد سكان ناغورني كاراباخ بـ145 ألف نسمة، ويقع الإقليم الذي تقطنه أغلبية أرمينية غرب العاصمة الأذرية باكو بحوالي 270 كلم، وتبلغ مساحته حوالي 4800 كيلومتر مربع، أي تزيد مساحته على نصف مساحة لبنان، وتأسست جمهورية ناغورني كاراباخ في السادس من يناير/كانون الثاني من عام 1992م، بموجب استفتاء عام، انفصلت به عن أذربيجان، في العاشر من ديسمبر/كانون الأول من عام 1991م، وأعلنت نفسها دولة مستقلة ذات نظام جمهوري، لم يعترف أحد بها.

وقامت هذه الدولة، خلال حرب قاسية امتدت أكثر من أربعة أعوام بين أذربيحان وأرمينيا، بين عامي 1988 و1994، وأدت لسقوط أكثر من ثلاثين ألف قتيل، ونزوح مئات الآلاف غالبيتهم من الأذر، وسيطرة الأرمن الذين يشكلون غالبية في الإقليم، على أراضيه، بالإضافة لستة أقاليم أذرية أخرى.

توقفت الحرب بالتوقيع على اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في عام 1994م، ولكن لم يتم التوقيع على اتفاق سلام إلى اليوم بين أذربيجان وأرمينيا، ويتعرض وقف إطلاق النار باستمرار للخرق، ولعل أعنفها كان قبل أيام.

ولا يمكن النظر إلى تجدد المواجهات في ناغورني كاراباخ، بعيداً عن إطار إقليمي دولي تعيشه منطقة الشرق الأوسط الكبير (الشرق الأوسط، آسيا الوسطى، القوقاز)، لا سيما أنه يأتي عقب إعلان روسيا انسحاب قواتها من سوريا، بعد زرعها لبذور التقسيم فيها، من خلال دعمها ميليشيات انفصالية لتعزيز مواقعها على أراضٍ جديدة، في ظل توتر روسي – تركي، بعد إسقاط تركيا الطائرة الروسية التي قالت إنها اخترقت أجواءها أواخر العام الماضي.

ولا بد من التذكير بالاتفاق الذي وقعته أذربيجان قبل أسابيع قليلة، لمرور غاز بحر قزوين إلى أوروبا مروراً بالأراضي التركية، وهو الخط المنافس للغاز الروسي.

وتجدر الإشارة إلى أن إعادة روسيا شبه جزيرة القرم إلى أحضانها، في سابقة بين الدول التي ظهرت على أنقاض انهيار الاتحاد السوفيتي، قد تكون ألهمت أذربيجان بإعادة التجربة ذاتها بإعادة ناغورني كاراباخ المحتل.

ويرى المراقبون إمكانية حل للأزمة تدخل بموجبها قوات دولية على رأسها القوات الروسية إلى مناطق أذرية تحتلها أرمينيا يتم "تحريرها"؛ حيث يمكن أن تشكل منطقة عازلة بين الطرفين الأرمني والأذري، بينما يحصل اللاجئون الأذريون على تعويضات مادية من المؤسسات الدولية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن أرمينيا ترى خطراً على أمنها في حال عودة اللاجئين الأذر.

وأي مبادرة روسية للحل لا تراعي خصوصية علاقة أذربيجان بتركيا سيكون مصيرها الفشل، ولا سيما على ضوء التوتر الحاصل بين روسيا وتركيا مؤخراً في سوريا، وفي ظل إعلان أنقرة وقوفها الكامل إلى جانب شقيقتها أذربيجان، لاستعادة أراضيها المحتلة، وبعد دعوات متكررة من الرئيس التركي أردوغان لنظيره الروسي بوتين للجلوس وبحث أكثر من قضية تهم الجانبين، قوبلت بتجاهل روسي تام.

يبقى القول إن تجدد المواجهات بين أذربيجان وأرمينيا في جنوب القوقاز، قد يكون فرصة لجلوس الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وجهاً لوجه من جديد على طاولة المفاوضات؛ لتطويق أزمة يمكن أن تشعل مواجهة إقليمية، وربما دولية، وبالتأكيد أي لقاء للزعيمين التركي والروسي، سوريا لن تكون بعيدة عنه.

وفي الوقت الذي ما زالت فيه روسيا تعيش تداعيات تدخلها في أوكرانيا، واستمرار تدخلها في سوريا، يبقى السؤال المطروح: هل موسكو قادرة اليوم على تحمل تداعيات أي تغيير في خارطة القوقاز الجيوسياسية؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد