يعتبر مرض الهيموفيليا (الناعور) من الأمراض التي شغلت حيزاً كبيراً من اهتمام العلماء عبر التاريخ بحكم الطبيعة الخاصة والشديدة القسوة التي تميز بها هذا المرض، وقد تم تخصيص يوم السابع عشر من شهر أبريل/نيسان من كل عام؛ ليكون يوماً عالمياً للتوعية والتثقيف حول هذا المرض.
كلمة هيموفيليا تعني سيولة الدم، وهي مشتقة من كلمتين يونانيتين هما: haima تعني الدم، وكلمة philia وتعني الحب، وبالتالي فهو المرض المحب للدماء.
أما التسمية بالناعور وهو جناح الطاحون أو الساقية، فهو توصيف آخر دقيق لمرضنا فكما لا يتوقف الطاحون أو الساقية عن الدوران لا يتوقف الجرح عن إسالة الدماء!
الهيموفيليا من أمراض الدم الوراثية الناتجة عن نقص أحد عوامل التجلط في الدم، بحيث لا يتخثر دم المصاب بمرض الهيموفيليا بشكل طبيعي، وهذا هو السبب الذي يجعله عرضة للنزف في أي جزء من أجزاء جسمه، سواء الظاهر أو الباطن، وخاصة العضلات والمفاصل بشكل تلقائي، أو عقب إجراء بعض العمليات الصغرى مثل خلع أحد الأسنان، ومن أخطر أنواع النزيف الداخلي نزيف الدماغ الذي يصاحبه إغماء وتشنجات، وكذلك نزيف المفاصل مثل الكوعين والركبتين، وهو من صور النزيف الداخلي الذي لا تظهر آثاره إلا بعد فترة من الوقت، عندما تتورم المفاصل وتصبح مؤلمة عند ثنيها، فيفقد المصاب القدرة على تحريكها مؤقتاً، وقد يؤدي عدم علاجها بشكل سريع إلى تلفها، كما أن الطفل المصاب بالهيموفيليا لا ينزف أسرع من الأطفال الآخرين، بل ينزف لمدة أطول.
تنقسم الهيموفيليا إلى ثلاثة أقسام تبعاً لعامل التجلط الناقص بكل حالة إلى:
هيموفيليا "أ": وهي الناشئة عن نقص عامل التجلط الثامن، وهي الأكثر شيوعاً وتسمى الهيموفيليا الكلاسيكية، فيما تأتي في المرتبة الثانية هيموفيليا "ب": التي تنشأ من نقص عامل التجلط التاسع، وهي الأكثر انتشاراً في منطقتنا العربية، ويسمى بمرض كريسماس نسبة إلى الكندي (ستيفن كريسماس)، أول مصاب به تم تشخيصه، ثم تأتي في المرتبة الأخيرة هيموفيليا "ج": والناشئة عن نقص عامل التجلط الحادي عشر وهو الأقل شيوعاً إذا ما قورن بالأنواع السابقة.
تعتبر الهيموفيليا من الأمراض المرتبطة بالكروموسوم (إكس) وهو من أكثر الكروموسومات غرابة في خريطة الوراثة البشرية من حيث النمط الوراثي وبيولوجيته الفريدة، ومن حيث ارتباطه بالمرض الوراثي، وينقلنا هذا المرض إلى طبيعة وراثية طريفة جعلت السيدات الأكثر حظاً من الرجال على هذا الكوكب، فلقد حبا الله خلايا المرأة بكروموسومين (إكس)، مما يمكنهن من موازنة أي عيب يطرأ على أحدهما، فعند إصابة أحدهما يعوض عمله الآخر، بينما يوجد لدى الرجال كروموسوم (إكس) واحد وكروموسوم هش واحد يسمى (واي)، وهو بمثابة نسخة متآكلة من كروموسوم (إكس)، وبه عدد قليل من الجينات ويسمى الكروموسوم الجنسي الذكري مقتصراً دوره على إعطاء الرجال شكلهم الرجولي؛ لذلك تزداد فرصة إصابة الذكور بالهيموفيليا لوجود نسخة واحدة من كروموسوم (إكس) لديهم، وعند إصابته ليس هناك ما يعوضه، في حين أن النساء يحملن الموروثة المريضة، ولكن يبقين معافيات وغير مصابات بالمرض؛ لذلك فجميع الأولاد الذكور للرجل المصاب بالمرض والمتزوج من امرأة سليمة لا يصابون بالمرض؛ لأن الرجال ليسوا مسؤولين عن نقل الكروموسوم (إكس) ولكن ينقلون فقط كروموسوم (واي) المسؤول عن الذكورة كما أسلفنا.
أما الرجل السوي والمتزوج من امرأة حاملة للمرض، فإن نصف أولادها الذكور يصابون بالمرض، ونصف بناتها يحملنه دون أن تظهر أعراضه عليهن سريرياً..
لا تتوقف هذه الطبيعة الوراثية الخاصة التي تميز النساء عن الرجال عند هذا الحد، بل إن ضعف وهشاشة الكروموسوم واي الخاص بالذكور -كما أسلفنا آنفاً- قد يجعل المستقبل القادم للنساء فحسب للعيش بمفردهن على هذا الكوكب فيما سينقرض الرجال! بحسب دراسة أسترالية طريفة في هذا الصدد.
وعلى الرغم من أن غالبية الحالات وراثية فإنه يمكن للشخص أن يكتسب الهيموفيليا من خلال طفرة وراثية تلقائية، كما يمكن أن يحدث في حالة قيام الجسم بتكوين أجسام مضادة لعوامل التخثر في الدم، مما يعوقها عن العمل، وهو ما يعرف بالهيموفيليا المكتسبة.
تعتبر الهيموفيليا مرضاً تاريخياً عرف عبر الأزمنة القديمة دون تسمية، فقد ورد بالتلمود كتاب الشعائر اليهودية، كما كتب عنه الطبيب العربي أبو القاسم الزهراوي عام 1107 راصداً حالة عائلة بموت أبنائها الذكور بسبب النزيف من جروح بسيطة دون تسمية للحالة.
وقد ظهرت التسمية بالهيموفيليا لأول مرة عام 1828؛ حيث كتبها عالم يدعى هوبف من جامعة زيوريخ، أما حديثاً فيعرف بالمرض الملكي نتيجة لانتشاره بين بنات الملكة فيكتوريا ملكة إنكلترا الشهيرة، التي حملت جيناته ومن ثم انتشر المرض بين ثلاث عائلات ملكية أخرى في إسبانيا وألمانيا وروسيا نتيجة لعلاقات المصاهرة.
وفي روسيا كان لهذا المرض الملكي محطة فارقة في زوال عرش القيصر نيقولا الثاني، فمع مرض ابنهاليكسي بالهيموفيليا استطاع الراهب الشهير راسبوتين أن يوهم نيقولا وزوجته أنه قادر على شفاء ابنيهما وولي عهدهما مستخدماً إمكانياته الخارقة في الإيحاء والتنويم المغناطيسي!
وبالفعل تحسنت حالة اليكسي ويرجع السبب الرئيسي في هذا التحسن بحسب بعض النظريات إلى أن العلاج السائد في ذلك الوقت كان الإسبرين باعتباره دواء سحرياً لكل داء! مما أدى إلى تفاقم الحالة بدلاً من تخفيفها، ومع نصيحة الراهب بإيقاف العلاج تحسنت حالة اليكسي إلا أنه لم يشفَ من الهيموفيليا كما زعم الراهب الدجال!
يختلف علاج الهيموفيليا باختلاف درجة شدته، فعلاج الهيموفيليا الطفيفة ومتوسطة الشدة يكون بواسطة الحقن بهرمون الديزموبريسين، وهو هرمون يصنعه الجسم ليحفز إنتاج عوامل التخثر المخزنة في الدم، ويمكن إعطاؤه عن طريق الأنف، أما في حالة الهيموفيليا الحادة فيتم علاجها بضخ البلازما وبالحقن عبر الوريد لعوامل التخثر، كما ظهر حديثاً العلاج الوقائي الذي يعتمد على تزويد الدم بكميات من عوامل التخثر بحيث يصبح الجسم في حالة من الجاهزية التامة للتصرف بشكل طبيعي عند حدوث أي نزيف أو إصابة.
وفي عام 2013 أوصت هيئة الغذاء والدواء الأميركية بـRixubis (بروتين العامل التاسع)للمصابين بعمر أكثر من 16 عاماً للوقاية والتخفيف من شدة المرض، كما أن هناك عدداً من الإجراءات الاحترازية لا تقل أهمية، فيراعى بالنسبة الأطفال ارتداء خوذة السلامة عند ركوبهم الدراجات وواقيات الركب والكوع.
هناك دور هام يلعبه الغذاء فيما يخص مرضى الهيموفيليا، فهناك بعض الأغذية التي لها دور بارز في زيادة تخثر الدم ووقف النزيف، ومن أمثلتها فيتامين ك الذي يوجد في الأوراق الخضراء كالسبانخ والجرجير والبروكلي والخضار ذات الجذور، والفواكه كالكيوي، وحليب الأبقار والشوفان والكبد، ومن الأمثلة الأخرى فيتامين سي، وكذلك الكالسيوم.
على النقيض توجد أغذية قد تساعد في زيادة النزيف وسيلان الدم، وينبغي تجنبها ومنها: الزنجبيل والقرنفل والكركم والثوم وأوميغا 3 وفيتامين E.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.