تتمتع طفلتي التي يصل عمرها إلى ثلاث سنوات بذكاء يفوق ذكائي عندما كنت في نفس عمرها، ولكن هل يمثل ذلك مشكلة؟
يرتجف وجه ابنتي البالغة ثلاث سنوات عند تغيير الأشكال الضوئية من جهاز iPad الصغير الذي تحمله في يديها.
وعندما تستلقي على الأريكة، وتضع قدميها على ركبتي، أرى الشاشتين الصغيرتين معكوستين في عدستي نظارتها، ويتوهج اللون الأزرق الزاهي لقزحيتها المستديرة والثمينة عند كل تغيير المنظر. وتبدو زاهية ومتوهجة، ويتمدد السواد البركاني للحدقتين الصغيرتين وينكمش من الداخل.
وخلف هذا المُجسم -الواقع بين التكنولوجيا الحديثة والتطور القديم- يحدث شيء رائع.
وسيجري تغيير كل منظر وصوت على يد خلايا مستقبلة متخصصة إلى نبضات عصبية، وبسرعة تزيد عن 100 متر في الثانية، تصل هذه إلى النبضات إلى القشرة الدماغية عبر تبادل معقد للبيانات من خلال وصلات الخلايا العصبية.
ومنذ ولادتها، تضاعف العقل لأكثر من ثلاثة أضعاف حيث تقوم دوماً ببناء الدوائر العصبية الجديدة المتطلبة لمعالجة المحفزات الجديدة التي تتعرض لها، وفي السنوات القليلة الأولى من حياتها، كوّن المخ تقريباً مليون وصلة عصبية جديدة في كل ثانية.
وعلى المستوى المجهري، من الممكن مشاهدة تكوين وصلة عصبية جديدة، حيث تتلوى ذراع الخلية العصبية الطويلة الملتوية التي تشبه الحشرة – ويُطلق عليه محور الخلية – تجاه خلية عصبية أخرى. ويحني المحور وصلته تجاه وصلة خلية عصبية أخرى، وتتصل الخلايا العصبية، التي تشبه عند مشاهدتها بالحركة البطيئة تقريباً تقبيل اثنين من العاشقين تقريباً، وبعد وقت ضئيل، ينصهران سوياً ليُشكلا دائرة حياتية سلسة.
ومن خلال نشأتي في مدينة ريفية فيكتورية في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات، تعرضت لعوامل بيئية بسيطة إلى حد ما، وإلى أن بدأت حياتي الدراسية في الخامسة من العمر، مكثت في المنزل مع والدتي، كانت لديها أعمالها المنزلية، وكانت لدي ألعابي وكتبي المليئة بالصور، ونادراً ما كنا نشاهد التلفاز الأبيض والأسود؛ واستغرقت الصور أسبوعاً وكانت الخطابات تُوضع في صندوق البريد.
وفي المقابل، تعرف طفلتي التي تبلغ ثلاثة أعوام ونصف العام جميع الحروف الهجائية، بفضل تطبيق ABC Kids، فهي لا تلتقط الصور بواسطة الكاميرا الرقمية الخاصة بها وحسب بل تحولها إلى عروض شرائح بسيطة، كما ترسل النصوص (وبها بعض التحريف، كي نكون منصفين) إلى ابنة عمها / خالها جيما، وتصور مقاطع الفيديو بواسطة جهاز الـiPad الخاص بها، ويمكنها كتابة اسمها والقيام بعمليات الجمع والطرح الأساسية.
إذاً، هل تعتبر أذكى مني عندما كنت في مثل سنّها؟
وببساطة، يمكننا الإجابة بنعم، فعلى الأقل طبقاً لجيمس فلاين، أحد الأساتذة الشرفيين بجامعة أوتاجو.
ويعتبر الأستاذ الجامعي فلاين الذي وُلِد في واشنطن العاصمة من علماء السياسة الذين اشتهروا في الثمانينات نتيجة لاكتشافه الرائع، أنه منذ الثلاثينيات وفيما بعد، كان هناك ارتفاع هائل في معدلات الذكاء IQ في العديد من أنحاء العالم، واستمر هذا التحسُّن حتى يومنا هذا وأصبح معروفاً باسم "تأثير فلاين".
وتحدث الأستاذ فلاين إلىّ في حوار عبر الهاتف من مقر عمله في دنيدن في نيوزيلندا:
"يشبه العقل العضلة، وليس هنالك شك في استجابته للتحفيز.. ولتوضيح ذلك، في عام 1900 لم يستطِع أي شخص قيادة السيارة، وفي عام 1950 تمكن الجميع من قيادة السيارة، وفيما بين عامَي 1900 و1950 كبُر حجم الحُصين؛ لأنه يمثل الجزء الذي يقرأ الخرائط داخل المخ، وفي الوقت الحالي، وبفضل نظام التوجيه الآلي، فإن حجم الحُصين يتقلص؛ لأننا لم نعد نؤدي التمارين المرتبطة به".
وفي مطلع عام 2008، كان الباحثون يكتشفون التأثيرات المفيدة لاستخدام الحاسوب على المخ. وفي دراسة رائدة حظيت باهتمام عناوين الأخبار على مستوى العالم، توصل العلماء في جامعتي كاليفورنيا ولوس أنجلوس إلى أن استخدام الإنترنت يعزز وظائف المخ.
ومن خلال استخدام تصوير الرنين المغناطيسي (MRI)، اكتشفوا أن البحث على الإنترنت مرتبط بزيادة نشاط مناطق المخ التي تتحكم باللغة والقراءة والذاكرة والقدرات البصرية لأكثر من ضعفين، إذا ما قُورنت بالنشاط الظاهر أثناء مهمة قراءة نص ما.
كما أظهرت الاستجابة التي أبداها المخ تجاه تحفيز ألعاب الفيديو آفاقاً واعدة، وطبقاً لمجلة الطب النفسي الجزيئي Journal of Molecular Psychiatrypaper، يوضح الدليل أن التعرض لألعاب الفيديو يحفز مرونة تشكيل الدماغ ويُحسن من أدائنا عند طلب الانتباه وفي المهام الإدراكية، ولكن فيما يتعلق بما إذا كانت تأثيرات التوسع في المخ تؤدي إلى تحسن في مهارات الحياة المعقدة، مثل حل المشاكل والتخطيط، فما زالت مفتوحة للمناقشة.
ويوضح فلاين:
"يعتقد الناس أن أي تحفيز للمخ يتطلب بالضرورة حصصاً كبيرة، ولكن ليس من الواضح ما إذا كان هناك نقل للمزيد من المهارات الإدراكية الملحوظة اجتماعياً، إن ارتفاع معدلات الذكاء IQ قد حدّ من التأثيرات عندما تكون مصحوبة بارتفاع في نسبة الجهل".
وفي ورقته البحثية المتوقع نشرها قريباً، يناقش فلاين كيف يمكن للمتعة البصرية بالفعل أن تشتت الناس عن الأمور الهامة؛ مثل فهم السياسات الدولية أو معالجة النقد الاجتماعي، ويقول بأن التقدم المعرفي، كما على النحو الذي يُقاس عليه خلال اختبارات معدل الذكاء، لا يعني بالضرورة الحكمة.
"وتُعد العديد من برامج الفيديو لتقديم الإثارة في كل لحظة. نعم، ربما يكون عقل الطفل الصغير ذي الأعوام الثلاثة أكثر تطوراً في الوقت الحاضر عنه لدى أطفال في نفس المرحلة العمرية منذ 30 عاماً. ولكن إذا انخفض معدل الانتباه بسبب التحفيز عاطفياً إلى دقيقة واحدة، إذاً فإن عقولهم مُبرمجة على إيقاع معين يوفر إدراكاً معقداً غريباً عليهم".
ويعتقد فلاين أن هذا التركيز والانتباه المُتطلبين للقراءة يخسران المعركة القائمة ضد البداهة البصرية التي يوفرها الإنترنت، ويحذر من أن ذلك قد تكون له تداعيات خطيرة بعيدة المدى.
"وصلنا إلى نقطة جديدة، وبدأت الدراسات في توضيح أنه كلما انخفضت نسبة القراءة، انخفضت نسبة التعاطف مع الآخرين، يبدو أن تكنولوجيا الكمبيوتر تدفع الناس إلى الانحصار داخل عالمهم الخاص".
وقضى الدكتور دايفيد بيكهام، أحد العلماء البحثيين بمركز جامعة هارفارد للإعلام وصحة الطفل، ما يزيد عن 20 عاماً في اكتشاف كيف يمكن للإعلام كعامل بيئي أن يؤثر على تطور الأطفال من الناحية البدنية والذهنية والاجتماعية. وعندما تحدثت إليه عبر الهاتف من ماساتشوستس، بالولايات المتحدة الأميركية، كانت الساعة التاسعة مساء بالتوقيت المحلي وكان طفليه، 3 و5 أعوام، نائمين.
"من المهم أن نُفرق بين استخدام الإعلام العام -التعرض لأجهزة وحسب مثل الأجهزة اللوحية – في ظل البرامج المُصممة خصيصاً للتعليم. ويُظهر الدليل، بشكل مقنع إلى حد ما، أن التعرض طويلاً للجهاز لا يُشكل الفارق، ولكن كيفية استخدامك بالإضافة إلى المحتوى الذي تتعرض له. ففي ظل تكنولوجيا التلفزيون والشاشات التي تعمل باللمس، توصلنا إلى أنه إذا تمكنت من خلق محتوى مُصمم لزيادة مراحل التطور الخاصة وكذلك قدرات الأطفال، إذاً يمكنك تدريس المحتوى بفاعلية، ولذا، من الجيد تعرض الأطفال للحروف والأرقام في سن صغيرة.
وبشكل غير مريح، إنني على دراية بأن طفلتي تتجاوز الحد الأقصى لوقت استخدام الجهاز اليومي للأطفال الذي توصي به المنظمات الصحية، ولذا عندما اعترفت بذلك لبيكهام، كان مطمئناً. وحتى في ظل تخفيض الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال لوقت استخدام الجهاز اليومي الموصى به إلى ساعة واحدة فقط، يعتقد بيكهام كونه باحثاً ووالداً أن قيوداً مثل هذه أصبحت نقطة خلاف.
"ففي عالم تنتشر فيه الأشعة والتكنولوجيا، بدأ وقت الاستخدام أن يكون أكثر صعوبة لقياسه وأقل أهمية لتحديد إرشادات خاصة به. ويتمثل السؤال الأهم الذي يتحتم علينا طرحه على أنفسنا: ما هي أكثر الأشياء أهمية لنمو الطفل؟ وهل يحصل الطفل على هذه الأشياء؟ وإذا كان كذلك، إذاً لا أعتقد أن قضاء بعض الوقت في استخدام الجهاز قد يتسبب في أي ضرر".
ومع ذلك، يحذر بيكهام من أنه يجب على الوالدين استخدام الإعلام بذكاء، ولا يجب أن يحل الإعلام محل تفاعل الوالدين مع الطفل وهو الأمر الذي يعد هاماً لنمو الطفل.
"لم أصادف قط شيئاً يمكنه إقناعي بأن الأجهزة تمنح الطفل شيئاً يحفزهم بطريقة تتجاوز نشاطاً مثل القراءة مع الوالدين، نحن كائنات اجتماعية بطبعها ونستمد معلوماتنا من التفاعل مع الآخرين، ولا يمكن تكرار التفاعل بين الوالدين والطفل في الأنشطة المشتركة بشكل مصطنع مع أحد الأجهزة".
وبغض النظر عن الجدل الدائر حول المزايا الممكنة أو التأثيرات السلبية لوقت استخدام الجهاز على المخ، فمن المؤكد أن أجهزة الحاسوب والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية تتمتع بهذه المزايا والتأثيرات.
وطبقاً لموقع Internet Live Stats، يوجد حالياً أكثر من 3.6 مليار شخص على اتصال بالإنترنت، وتشير شركة Statista إلى وجود 2.3 مليار مستخدم للهواتف الذكية حول العالم في وقتنا الحالي.
وذكرت منظمة اكتشاف الأجهزة، DeviceAtlas، أن 87 % من مستخدمي الهواتف الذكي يقولون بأنهم "دائماً ما يكون الهاتف بجانبهم، ليلاً ونهاراً". ويصرح موقع Finder.com أن واحداً من بين كل أربعة أسترالي تقريباً يطلع على هاتف بعد 10 دقائق من استيقاظه (وهناك 13% يقومون بذلك بعد دقيقة واحدة)؛ وبشكل مذهل، توصلت دراسة أميركية – كندية مشتركة إلى أن واحداً من بين كل عشرة يطلع على هاتفه أثناء ممارس الجنس.
واعترف دانيال باتاجاليا، المؤسس والمدير التنفيذي لموقع الأعمال ParkingMadeEasy.com.au على الإنترنت، بأنه "مدمن للأجهزة" ويلخص حياة الأشخاص المدمنين للتكنولوجيا في وقتنا الحالي، وباعتباره ضمن جيل الألفية، يعتقد باتاجاليا المقيم في سيدني، والبالغ 34 عاماً، أن التكنولوجيا الحديثة جعلته أكثر ذكاء بالقطع.
"إن امتلاك جهاز متصل بالإنترنت يوفر دخولاً فورياً إلى الكثير من المعرفة البشرية التي لم يكن من السهل الوصول إليها في الماضي. فهو يمنحني حرية الاتصال بأشخاص أو تعلم أشياء جديدة والتطلع إلى كل ما هو جديد مثل الأخبار ويساعدني على زيادة حجم أعمالي، وهذا كله يتم عن بعد، من أي مكان".
وتعتبر ليز جمال، أحد المحترفين في مجال التسويق الرقمي والبالغة 30 عاماً، أحد أفراد جيل الألفية ممن يعتمدون بشكل ثابت على التكنولوجيا للاطلاع على أحدث المستجدات، مثل الميول والأبحاث، والتعرف على أحدث التطورات في عمله. وعلى الرغم من معرفتها بالتوصيات التي تشير إلى "الإغلاق" بانتظام، لم تنوِ أبداً تقليص وقت استخدام الجهاز.
وأخبرتني: "حتى عندما لا أعمل، أتصفح هاتفي وأقرأ مدونات الأعمال والمقالات المتعلقة بالتطوير الشخصي، أحب عملي ولا أواجه مشكلة في ذلك".
لا يعتبر الجميع مسرفين في التعبير، ويقول الأستاذ الدكتور مالكولم هوبوود، رئيس الكلية الملكية للطب النفسي في أستراليا ونيوزيلندا بأنه لا يوجد شك في أن الأجهزة تمثل مساعدة رائعة للمجتمع، وتوجد مجموعة من الأشخاص الذين يعتمدون عليها بشكل كامل.
"هناك بعض المخاوف من أن الأجهزة يمكن أن تطمس الحواجز بين حياة الناس العملية وحياتهم الشخصية، ومن المهم للغاية أن يحصل الناس على وقت كافٍ بعيداً عن العمل، ويمكن للأجهزة الشخصية أن تُصعب ذلك".
ولذا، هل تعني هذه النصيحة المتضاربة أنني كنت على وشك أن أُصبح أماً لأحد عباقرة الإنترنت؟ أو مدمني الإنترنت؟ أو هل يمكن لمثل هذا التمييز الاصطناعي ألا يوجد مرة أخرى؟
تقلقني هذه الأفكار عندما أقف وألمس طفلتي بلطف على خدها.
وأقول: "حان وقت النوم".
وبعدها تسود الدموع ونوبات الغضب وهو ما يجري عملياً في كل ليلة، حتى عندما أعدها بقراءة قصة "The Gruffalo" و "The Gruffalo's Child" و"We're Going on a Bear Hunt".
حان وقت تنفيذ الخطة الاحتياطية.
وبينما كانت مستاءة وتبكي وتقفز، توجهت إلى رف الأسلاك الذي نحتفظ به عند مدخل المصعد.
وتوجد أحذية وصنادل على الأرفف السفلية، وعلى العلوية توجد المفاتيح الخاصة بي وكيس النقود، ولكن الليل، هناك شيء آخر، شيء قذفته تقريباً.
وتوقفت دموع ابنتي فجأة عندما رأت الظرف في يدي، وعليه ملصقات الحيوانات واسمها والعنوان على الجزء الأمامي بأحرف كبيرة ذات لون وردي لامع.
ما هذا يا أمي؟
وقلت لها: "إنها بطاقة لكِ".
وأعطيتها الظرف وشاهدتها وهي تفتح غطاء الظرف بلهفة، وصاحت من السرور عندما أخرجت البطاقة، وكانت عبارة عن بطاقة من الورق المقوى مقطوعة على شكل دجاجة ريشها أصفر وأعين سوداء كبيرة.
وقلت: "لقد أعدتها جدتك".
وكشرت بعدها وهزت البطاقة المصنوعة يدوياً بشدة لدرجة أن أعين الدجاجة أحدثت صوتاً جلجلاً، وقالت: "اقرئيها".
امسكت بالبطاقة، مستشعرة الريش الناعم، ونتوء الصمغ الجاف، والمنقار الخشبي الأحمر.
وبدأت في القراءة: "عزيزتي أميتي".
وضحكت طفلتي وفي المقابل ابتسمت، والآن على الأقل أصبحت سعيدة، فما زال هناك بعض الأمور التي لا يمكن لوقت استخدام الجهاز التغلب عليها بغض النظر عن الهاتف الذكي.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة "هاف بوست"، للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.