"لو كان العالم كله دولةً واحدةً، لكانت إسطنبول عاصمتها" نابليون بونابرت.
قمة الدراما السياسية، المعبرة عن التموضعات الجديدة في التحالفات الدولية مؤخراً، تمثلت في قيام سلاح الجو الروسي، لأول مرة في تاريخه، بتقديم الدعم الجوي للقوات التركية التي تقاتل قوات داعش في الباب (على بُعد 38 كم من حلب)، بعد أن امتنعت طائرات التحالف الدولي ضد داعش بقيادة أميركا عن القيام بذلك!
فيبدو أنه بعد 14 حرباً تاريخية بين روسيا القيصرية والخلافة العثمانية، أدرك الأعداء التقليديون أن التحالف السياسي (وربما التقارب العسكري) يمكن أن يحقق ما عجزت الحرب بينهما عن فعله.
كان وقع الصدمة في تركيا كبيراً، والشعور بالخذلان من أفعال الغرب عميقاً، ولم تتأخر تركيا في الرد على الخذلان الأميركي بإعلان نائب رئيس الوزراء التركي "ويسي قايناق" لقناة الخبر التلفزيونية التركية، أن "تركيا تدرس مسألة وجود قوات أميركية في قاعدة إنجرليك الجوية"، الأمر الذي أقلق الأميركان كثيراً، وجعلهم يسارعون للتصريح عبر المتحدث باسم التحالف الدولي لمحاربة داعش، العقيد الأميركي جون دوريان، من بغداد، بأن واشنطن تجري محادثات مع أنقرة بشأن تقديم "الدعم في المستقبل" حول بلدة الباب، وأن تركيا تعلم ما يمكن للتحالف أن يقدمه لها (السؤال هنا لِمَ لا تقدمه إذاً؟).
1- التقاء مصالح روسي تركي في العديد من الملفات:
في الملف الأمني التركي، لدى تركيا ثلاثة أعداء واضحين، أعلنوا الحرب عليها صراحة، فأعلنت الحرب عليهم:
1- حزب العمال الكردستاني PKK المسؤول عن عشرات الهجمات في تركيا.
2- داعش، التي دعا زعيمها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى مهاجمة تركيا (ليس إيران ولا إسرائيل!).
3- جماعة فتح الله غولن، المتهم الرئيسي في الانقلاب الفاشل ومحاولة اغتيال أردوغان.
وبالنظر إلى هذه الأطراف الثلاثة، نجد أن روسيا أقرب لتركيا، على عكس الغرب تماماً! فروسيا تحارب داعش، وكذلك تركيا، وقدمت الأولى للثانية دعماً جوياً ضد داعش في مدينة الباب، لأول مرة في التاريخ العسكري بينهما، كما أسلفنا، عكس الغرب الذي تلكَّأ وتخاذل.
كما أن روسيا أدانت بسرعة الانقلاب الفاشل الذي قامت به جماعة فتح الله غولن، بعكس الغرب المتهم بدعم الانقلاب، الذي يرفض حتى الآن تسليم أنقرة زعيم التنظيم!
نقطة الخلاف بين روسيا وتركيا كانت الفصائل الكردية المسلحة في سوريا والعراق التي تدعمها روسيا، ووعدتهم سابقاً بفتح مكتب سياسي لهم في موسكو.
وحتى هذه النقطة، توصلت تركيا إلى اتفاق مع روسيا بشأنها، قضى بوقف الدعم الروسي للأكراد، مقابل وقف الدعم التركي لفصائل جيش الفتح في حلب، وهو ما فعلته تركيا في معركة حلب، الأمر الذي استدعى توجيه الشكر من بوتين لأردوغان لدوره في "تحرير حلب".
هذا الموقف الروسي الذي بدا مفهوماً ومنطقياً ومصالحياً وبراغماتياً، قوبل بعدم فهم تركي مطلق للموقف الأميركي المصرّ بعناد على دعم وحدات حماية الشعب الكردية، وقوات سوريا الديمقراطية الكردية – رغم الاعتراضات التركية – والإصرار على دفع رواتبهم، ومدهم بالسلاح، وإرسال قوات كندية وألمانية للقتال بجانبهم!
أي أن روسيا تقف في صف تركيا ضد أعدائها المعلنين جميعاً، هذا غير الأعداء غير المعلنين، الذين ربما يعرفون أنفسهم على أنهم حلفاء لتركيا، بينما هم في الخفاء معادون لها!
أما إذا أضفنا البعد الاقتصادي إلى البعد الأمني (التبادل التجاري والمحاصيل الزراعية والسياحة ورجال الأعمال وخط الغاز الروسي إلى أوروبا "ترك ستريم")، فإن حاجة تركيا وروسيا لبعضهما البعض ستكون على أشدها، وسترجح بالكامل كفة التقارب الروسي نحو تركيا على ما سواها (إيران)، وكذلك التقارب التركي نحو روسيا على ما عداها (الغرب).
2- روسيا ترى تركيا أكثر أهمية من إيران:
التقارب الروسي – التركي تجسَّد في قرار وقف إطلاق النار في سوريا، بعد ست سنوات من الحرب، وهو قرار فرضته تركيا على أميركا وفرضته روسيا على إيران.
ورغم تقليل الخارجية الأميركية من أهمية عدم دعوتها لمؤتمر موسكو، ورغم اعتراض إيران، ووضع شروط اللحظة الأخيرة في اتفاق تسليم حلب، فإن كلا الدولتين قبلت به كأمر واقع لا تستطيع تغييره.
ومنذ قرار وقف إطلاق النار، لم تتوقف التحركات السياسية الإيرانية، ولا خروقاتها على الأرض للقرار، في تصعيد عسكري يؤكد حق الضرب في أي مكان، وتصعيد سياسي يرفض مطالبة تركيا بوقف هذه الانتهاكات، وتصف مطالبة أنقرة بخروج حزب الله بأنها دعاية خرجت من الأعداء، مطالبة القوات التركية بمغادرة سوريا (رغم أنها تقاتل داعش فعلاً وليس بالكلام) وهي تصريحات تعبر بدقة عن توصيف إيران لعلاقتها الحالية بتركيا، وعن انزعاج طهران من الحلف الروسي التركي الجديد، الذي يبدو أنه سيأتي على حسابها.
فليس من مصلحة إيران وقف إطلاق النار في سوريا، وهنا تتعارض المصالح الإيرانية الروسية، التي أثمرت سابقاً استعادة حلب، لكن بعد سقوط المدينة، وخروج المسلحين منها، وما قيل عن اشتراط تركيا على الروس ألا يذهب بشار إلى حلب، وألا يلقي فيها خطاب النصر، ومع تحويل قاعدة حميميم إلى قاعدة دائمة للجيش الروسي، فإن حاجة روسيا للميليشيات الإيرانية على الأرض صارت ضئيلة، بل إن هيئة الأركان الروسية بدأت في تقليص عدد القوات الروسية نفسها العاملة في سوريا، وفي مقدمتها حاملة الطائرات كوزنتسوف والسفن الحربية المرافقة لها، في إشارة ربما لإيران كي تقبل بسحب بعض ميليشياتها هي الأخرى من هناك، وخاصة حزب الله.
3- تقارب روسي مع تركيا تدفع ثمنه إيران:
بدأ الصدام إذاً بين الحليفين السابقين، روسيا وإيران، في سوريا، واستمرت إيران في خرق الهدنة، ولا سيما في وادي بردي، المصدر الرئيسي الذي يمد دمشق بواحدة من أنقى أنواع المياه في العالم، ورأينا حزب الله وهو يمنع أكثر من مرة وفوداً روسية من الدخول للمنطقة، في محاولة لإخراج بقية المعارضين من العاصمة بأي ثمن؛ لتبقى خالصة للنظام قبل أي تسوية في مباحثات الأستانة (عاصمة كازاخستان) أواخر هذا الشهر.
كما رأينا محاولات روسية للتوسط بين النظام والمعارضة من أجل تحييد موضوع المياه عن القتال في المنطقة بعد قرار وقف إطلاق النار، وهو نقلة نوعية للروس من القيام بدور المفاوض إلى القيام بدور الوسيط، وهو في نفس الوقت إقرار روسي بمبدأ خرق الهدنة، مع محاولة تقنين ذلك الأمر وتقييده فقط، استهلاكاً للوقت حتى موعد المباحثات بعد أسبوعين.
فهل التصعيد الإيراني على الأرض محاولة أخيرة فقط لفرض معطيات جديدة على الأرض قبل المباحثات السياسية النهائية، وبعلم روسيا وموافقتها؟ أم أن التخوف الروسي من لعب إيران مع الغرب وتوقيعها الاتفاق النووي دفعها للعب مع تركيا التي تلتقي معها في العديد من الملفات كما أسلفنا، ضد إيران؟
وماذا لو تمسكت إيران بمسألة بقاء الأسد، أحد ثوابت السياسة الإيرانية في سوريا، ولم تبالِ روسيا بالأمر، ووضعته كورقة للتفاوض مع تركيا والغرب مقابل أغلى سعر؟ عندها ستتسع الفجوة الروسية الإيرانية، وستغير روسيا تحالفاتها في هذه الحرب، بالضبط مثلما فعلت منذ 100 عام بالضبط، بعد قيام الثورة البلشفية في خضم الحرب العالمية الأولى!
الخلاصة:
لا شك أن روسيا تقاربت كثيراً مع تركيا، وأن علاقتها بإيران تأثرت جراء ذلك، وهو شيء لم تستطِع أميركا نفسها فعله، ولا شك أن هناك مَن حاول عرقلة هذا التقارب، وأن اغتيال السفير الروسي في تركيا كان إحدى وسائل ذلك.
الآن إيران، التي تدعي محاربة الشيطان الأكبر، تقف بلا حليف قوي، اللهم إلا أميركا، التي يدعم طيرانها ميليشياتها في العراق واليمن، مستخدماً طموحها التوسعي لتقسيم المنطقة طائفياً، وتغيير تركيبتها الديموغرافية!
لكن، وبرغم ذلك لا يمكننا أن نقف على حقيقة الخلاف الروسي الإيراني وحجمه وأبعاده، ومدى تأثره بالتقارب الروسي التركي، إلا مع مفاوضات الأستانة في 23 من هذا الشهر، بعد 3 أيام فقط من تولي ترامب مقاليد السلطة رسمياً؛ لتكتسب روسيا حليفاً جديداً وقتها في المفاوضات.
مصادر:
1- نائب رئيس الوزراء التركي: مسألة قاعدة إنجرليك الجوية مدرجة على جدول أعمال حكومته: (الأمر أقلق الأميركان)
2- مستشار خامنئي: حزب الله لن يخرج من سوريا
3- حزب الله يمنع دخول وفد روسي إلى وادي بردي للمرة الثانية
4- موسكو تعلن بدء تقليص قواتها في سوريا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.