لا تقتلوا أولادكم خشية إبداع

فور ولادتنا يتّجه المجتمع في تصنيفنا، فتنهال علينا الأدعية "مهندس إن شاء الله.. دكتور بإذن الله.. محام على بركة الله.." وغيرها من الأدعية التي تجيبها قلوب الأولياء بتأمين صادق؛ إذ إنّ نظرة المجتمع للصفة المهنية والمعرفية فقدت الطابع الموضوعي، فأصبح الفرد يسيّر ضمن خطّ يسطّره له النمط الموجود

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/26 الساعة 09:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/26 الساعة 09:56 بتوقيت غرينتش

إذا كان عندكم طفل صغير في البيت، فمن المؤكّد أنّكم مللتم من عجيب تساؤلاته واندهاشه حول أتفه الأمور، سيسألك عن أشياء تجعلك تتأفف منه، كما أنه سيقف مندهشاً أمام تفاهات لا قيمة لها في رأيك.. حسناً ماذا لو أخبرتك أنّه في هذه الحالة يقوم بفعل أنت عاجز عن تأديته اليوم.. إنّه يتفلسف.. في مثل هذا السياق كان حديث "جوستاين غاردر" في روايته الشهيرة "عالم صوفي"؛ إذ يؤكّد أنّ فعل التفلسف هو فعل فطري نبدأ به حياتنا؛ لننحدر تدريجيّاً إلى دوائر النمط باكتسابنا وفهمنا لما تفلسفنا حوله.

السنن الكونية تفرض لكلّ منّا دوراً في الحياة يختلف حسب تأثيره، غير أنّه مشكّل لفسيفساء القدر.. يولد الفرد منّا حاملاً في قلبه العالم الأكبر الذي تحدّث عنه الشاعر بقوله: "وتحسب أنّك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر".. نحمل داخلنا طاقات في مجال معيّن تختلف حسب أنواع الذكاء عندنا (رياضي، موسيقي، حركي.. الخ) غير أنّ النمط يقولبنا حسب السياق الذي يريده فيحرمنا من الإبداع في إطار ما خلقنا به.

فور ولادتنا يتّجه المجتمع في تصنيفنا، فتنهال علينا الأدعية "مهندس إن شاء الله.. دكتور بإذن الله.. محام على بركة الله.." وغيرها من الأدعية التي تجيبها قلوب الأولياء بتأمين صادق؛ إذ إنّ نظرة المجتمع للصفة المهنية والمعرفية فقدت الطابع الموضوعي، فأصبح الفرد يسيّر ضمن خطّ يسطّره له النمط الموجود؛ ليفقده استقلاليّته وخصوصيّته تحت مسمّى أنّ مَن يرشده قد اكتسب خبرة في الحياة تؤهّله ليقوده وهو مغمض العينين دون سعي حتّى لاكتشاف مواهبه ومهاراته حتّى المنفتحين من الآباء والأمهات إذا أخبرتهم أنّك تريد أن تتخصص في الموسيقى كمجال للعمل أو الرسم والتصوير، فإنّه سيشير دائماً إلى أنّ هذا الاختيار سيقضي على مستقبلك المادّي، خاصّة في وطننا العربي، وأنّك لن تصل إلى ما تريد، وأنّه الأولى بك أن تسلك طريق العلوم التي من الممكن أن تفتح لك باب الرزق المنتظر، وهذا ما يحرمنا اليوم من تقديم علماء في عدّة مجالات لمواصلة البحث والاكتشاف، فارتبطت العلوم عندنا بالمستقبل المهني، حتّى إذا أضحى الفرد حاملاً لبعض آمال التعمّق ومواصلة البحث، فإنّ المعايير التي يفرضها النمط ستبقيه صاحب علم محدود أو غير معترف به، كصاحب صفة علميّة؛ لنجد الإجابة هنا لماذا لم نعد قادرين على ولادة الخوارزمي وابن سينا والبيطار وابن النفيس ومصطفى مشرفة وأحمد زويل من جديد؟ إذ إنّ طبيعة تعليمنا لا تمنحك المعرفة بقدر ما تمنحك معلومات تتجاوزها بمجرد تجاوز الاختبار، فانتقلنا هنا من صفة تلميذ أو طالب نطلقها حول من يريد النهل من العلوم إلى مهنة يمارسها الفرد فينا ضمن سلسلة مفروضة عليه.

إنّ هذه التفاصيل التي نتغافل عنها هي السبب الأوّل الذي يدفعنا اليوم لنجد أطفالاً يتحوّلون عند مراهقتهم.

إنّ التنميط الذي نفرضه على عقولهم يبني فيها سلسلة معيّنة من الأحداث التي يجب أن يتجاوزها ليمر لمرحلة أخرى من الحياة باحثاً دائماً عن إتمام المراحل، لا الاستمتاع بالحياة، وهذا ما كان تحدّث عنه "باولو كويلو" في "الخيميائي"، حول قصّة الحكيم الذي أعطى الشاب ملعقة فيها زيت، وطلب منه الحفاظ عليها حتّى لا ينسكب؛ ليسأله بعد ذلك حول الجمال الموجود في قصره، وتكون إجابة الشاب بأنّه كان مهتماً بأمر الملعقة، كل هذه التفاصيل تكسب الأفراد كبتاً ينفجر عند بداية الشعور بالبلوغ؛ لنتساءل بعدها: "هل هذا هو الطفل الوديع الذي عهدته؟"، وقد تتطوّر المسألة تدريجيّاً لتدفعه إلى عواقب وخيمة لا نعلمها.. فإمّا تطرّف أو انحراف لتكون النتيجة غالية ومؤلمة.

أرجوكم هناك من الطاقات التي نحتاجها لإعادة استنهاض أوطاننا وإعادة بنائها مرّة أخرى.. لا تقتلوها خشية إبداع.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد