تشرق الشمس وتخرق بأشعة النور ما تبقى من حاشية الظلام، وتخرق أصوات الخلائق معها ما بقي من سكون الليل.
تدب الحركة في المكان، وتبدأ ملامح القاعة الواسعة في الظهور، مكتبٌ في نهاية الرواق الذي يتوسط القاعة تواجهه عدة كراسي، ومكاتب أخرى أصغر حجماً، كل شيءٍ تغلب عليه الفوضى، الورق متناثرٌ في كل مكان، صفحات الورق على الأرض أكثر من تلك التي اعتلت أسطح المكاتب.
ربما كانت تلك القاعة من ثلاثة أعوام مضت فصلاً دراسياً أو مدرجاً جامعياً أو جزءاً من إدارة حكومية، هي الآن تصلح لأن تكون قاعة محكمة.
يدخل أول ما يدخل الحاجب، يمشي إلى نهاية الرواق ويحاذي المكتب في نهايته ويقف منتصباً، من الصعب أن ترى أي تعبيرٍ على وجهه.
ثم يتتابع الناس واحداً تلو آخر ويتخذ كل منهم مقعداً، ويتحادثون فيما بينهم، ويغلب على القاعة أصوات التهامس…
ثم يدخل بعض الحرس بأسلحتهم ويحيطون بجنبات القاعة وأبوابها، ويخيم الصمت على الجميع انتظاراً للقاضي.
يدخلُ رجلٌ أربعيني كث اللحية بثيابٍ عسكرية ويجلس على كرسي القاضي، في الواقع لا أذكر إن كان أربعينياً، ربما كان شيخاً جاوز السعبين، طويل اللحية أبيضها، وربما كان فتى بلغ من توه الثالثة عشرة، وبالكاد نبتت شعرات ثلاث في ذقنه..
حقاً لا أذكر، ربما كان القاضي أحدهم، فقد اشتبه عليّ بين تلك الاحتمالات الثلاثة.
في ركن القاعة هناك قفصٌ حديدي خالٍ من أي شيء وأي أحد، اللهم إلا تلك الأصفاد الكثيرة والسلاسل المترامية في جوانبه.
تبدأ الجلسة: "بسم الله".
ينظر القاضي نحو القفص، ويقول: من المتهم؟
يرد الحاجب: لا نعلم.
القاضي: ما اسمه؟
الحاجب: لا نعلم.
القاضي: كم عمره؟
الحاجب: لا نعلم.
القاضي: ما جنسه؟
الحاجب: لا نعلم.
القاضي: اتلُ على الناس جرمَه.
الحاجب: أما وقد ثبت لدينا أن المذكور من "الأغيار"، فقد استوجب عليه أن يقف بين يدي قاضي الشرع لينظر في أمره ويحكمَ بحكم الله فيه.
يعتدل القاضي وينظر في ورقةٍ وُضعت أمامه منها نسخٌ كثيرة بذات الصياغة، ثم ينظر إلى الحاضرين، ويقول:
"قد تقرر لدينا بعد النظر في أحكام الشرع وتصنيفات الفقه وكتاب الله وسنة نبيه أن المتهم من الأغيار، وقد استوجب بذلك العذاب بما باء به من جرم، وقد قضينا فيه بالدهس.. والله من وراء القصد".
تنتقل بوصلة المكان إلى حيث ساحة التنفيذ، يعتلي شابان شاحنةً ضخمة ويسيران بها إلى حيث ينفذان حكم القاضي.. ها هي الحشود هناك..
– من منهم المجرم؟!
أوَتسأل! كلهم.
ذلك الرجل هناك، تلك المرأة، ذلك الطفل الذي يلهو بدميته عن جوار أمه، وذلك المسن أيضاً، كلهم "المجرم" ألا ترى! ليس فيهم من يشبهنا، حكم عليهم حضرة القاضي بعلمٍ لدُني اختصه الله به، وتوجب العذاب عليهم بما فعلوا.
– وما فعلوا؟!
ويحك! إنهم من الأغيار، عليهم لعنة الله.
– وتلك هناك، أظنها مسلمة وطفلتها إنها محجبة!
أثقلتْ! كلهم أغيار، كفرةٌ مشركون استحقوا العذاب والقتل بذلك، أو مرتدون خارجون عن حكم الله.
وأراك تسأل، ألا تستغفر الله يا رجل!
يستغفر الرجل، ويُكثر من الاستغفار ليرفع الله عنه وزر خطيئته، فقد سأل.
تمضي الشاحنة إلى التنفيذ، تسرع شيئاً فشيئاً، وتدهس الأغيار.
يحاول الرجل قدر الإمكان ألا يترك أحداً، يحاول ألا يفلت أحد من الدهس تحت عجلات الشاحنة، يحاول أن يصدم عدداً أكبر لعل الله يغفر له خطيئة السؤال.
ها هي طفلةٌ فزعة تحاول التنحي عن جانب الطريق فيسارع إلى دهسها؛ ليحوز الأجر العظيم، ويطمئن قلبه إلى أنه حاز الغفران، ووجبت له الجنة، قبل أن يأتي رجال الأمن فيبادلونهما طلقات النار ويُقتلا.
وياللعجب!
روحاهما تصعدان وليستا في ذلك الصعود وحيدتين، ها هي الطفلة التي حاولت الهرب، روحها هناك، ولكنها هذه المرة تمسك بيد أمها التي أضلتها منذ لحظات، قد اجتمعا ثانيةً.
ولكن!
إنها تبتسم، مطمئنة هادئة، تقفز ابتسامات الفرح على وجهها!!
يتساءلان……
إلى ذلك أخرج أنا من المشهد، ويقف قلمي.
يصل الخبر إلى القاضي الذي حرتُ فيه، أكان شيخاً أم رجلاً أم فتى؟
يصل الخبر فتعلو صيحات التكبير، ويحمدون الله أن المجرم
الذي اسمه:………………………
وجنسه:………………………….
وعمره:………………………….
وجرمه:…………………………
قد وقع عليه حكم قاضي الشرع.
وينفض الجميع إلى جلسةٍ أخرى، ينظر القاضي فيها أمر آخرين من الأغيار.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.