لا يكاد يمر يومٌ إلا ونفجع بمشاهد الهجمات الإرهابية الأليمة في الشرق والغرب، والتي لم تنج منها دولة عربية كانت أو أوروبية، فمن مصر إلى العراق والسعودية والبحرين ثم إلى فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة، وآخرها في مدينة "نيس" جنوب فرنسا، حيث قام أحد المتطرفين بدهس حشد من الناس بشاحنة أثناء احتفالهم بالعيد الوطني، فأودى بحياة 83 شخصاً على الأقل بينهم رضع وأطفال ونحو 100 جريح.
والعجيب أن كل هذه الأفعال الإجرامية تتم زوراً وبهتاناً باسم الله واسم شريعته، فلا الله ولا شريعته يأمران بسفك الدماء ولا إثارة الرعب في نفوس الآمنين مهما كانت عقيدتهم أو ديانتهم أو أعراقهم، ولكن هؤلاء الفجرة يأبون إلا أن تملأ رائحة دماء ضحاياهم الأرجاء، فقتلوا زوراً باسم الله واسم الإسلام الرجال والنساء والأطفال، وقتلوا بذلك إسلامهم.
لقد تجرد هؤلاء الشياطين من معاني الإنسانية التي حثت عليها الأديان السماوية جميعها من محبة وتسامح ورحمة وتعايش وإخاء، واستبدلوها بمعانٍ دنيئة تأباها الفطرة السليمة من قتل وترويع وإفساد في الأرض فاستحقوا بذلك لعنة الله في الدنيا والآخرة.
فلو كان هؤلاء القتلة المجرمون أمثال "داعش" وغيرها من الجماعات المتطرفة الضالة يفقهون الإسلام ما قاموا بتلك الفظائع من قتل للأنفس وترويع للآمنين حتى ولو كانوا غير مسلمين.
ولو كان الإسلام حياً في قلوب هؤلاء لعلموا أن الله سبحانه وتعالى جعل بر غير المسلمين من الدين إن كانوا غير محاربين، فقال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، بل حتى في حال الحرب، جاءت الأوامر النبوية الشريفة إلى الصحابة الكرام فوضعت ضوابط لتعامل المسلمين مع غير المسلمين، فكانت الأوامر النبوية الصارمة: "لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين"، وجاء الخلفاء الراشدون من بعده صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليؤكدوا تلك القواعد النبوية، فعندما أرسل سيدنا أبو بكر الصديق جيشه إلى الشام، قال لقادته: "لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تقطعوا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون على قوم فرَّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له".
لقد تغافلت "داعش" ومثيلاتها عن أخلاق الإسلام، ولم يروا إلا مصالحهم السياسية وأطماعهم في الحكم أو ما يسمونه بـ"الخلافة"، فكما قال العلامة عبدالله بن بيه: إن ما تعيشه الأمة اليوم من فتن مرده إلى التباس مفاهيم شرعية لا غبار عليها في أذهان شريحة واسعة من المجتمعات المسلمة، كتطبيق الشريعة ودولة الخلافة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وطاعة أولي الأمر، وهي مفاهيم كانت في الأصل سياجاً على السلم، وأدوات للحفاظ على الحياة، ومظهراً من مظاهر الرحمة الربانية التي جاء بها الإسلام على لسان نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلما فهمت على غير حقيقتها، وتشكلت في الأذهان بتصور يختلف عن أصل معناها وصورتها، انقلبت إلى ممارسات ضد مقصدها الأصلي، وهدفها وغايتها، فتحولت الرحمة إلى عذاب للأمة، اكتوى به المذنب والبريء، واستوى في إشاعته العالم والجاهل.
وبذلك أصبحت أفعال "داعش" الإرهابية تصب في مصلحة تشويه الإسلام، وتنفير الناس منه، وجلبت الويلات للمسلمين المقيمين في الغرب، الذين أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الغربي، فأصبحوا بتطرفهم سداً يمنع انتشار الإسلام وأخلاقه.
وهذه الجماعات المتطرفة الإرهابية، وعلى رأسها داعش، قد ضربت بصريح آيات الله عز وجل عرض الحائط، فجعلوا الكفر السبب الوحيد في قتال غير المسلمين، مع أن الله سبحانه وتعالى إنما جعل قتال غير المسلمين دفاعاً عن النفس أو لرد العدوان، يقول تعالى: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً)، ويقول كذلك: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا)، والآيتان قطعيتا الدلالة على حرمة قتال غير المسلمين العُزَّل غير المحاربين، فليس الغرض من الجهاد إبادة أهل الكفر وتدميرهم، أو إِدخالهم في الإسلام كرهاً؛ لأن الأمر محسوم: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).
كما حذر سيدنا محمد نبي الرحمة، صلى الله عليه وآله وسلم، من كل هذا، فقال: "أخوف ما أخاف عليكم: رجلٌ قرأ القرآن حتى إذا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عليه وكان رِدْءاً للإسلام، انْسَلَخَ منه ونَبَذَهُ وراءَ ظهرهِ، وسعى على جاره بالسَّيف ورماه بالشرك، قلت: يا نبيَّ الله! أيُّهما أولى بالشرك، الرامي أو المرميُّ؟ قال: بل الرامي".
وأقول لداعش وأخواتها: يا من تقتلون باسم الله .. عليكم لعائن الله، قتلتم الأبرياء وقلتم إنكم تطبقون الشريعة وأنتم تطبقون الشنيعة.. هدمتم الأوطان وخربتموها وشردتم أهلها، والله ما استخلفنا في الأرض إلا لعمارتها، وجعلنا شعوباً وقبائل مختلفين لنتعارف لا لنتقاتل.. سبيتم النساء وانتهكتم أعراضهن.. قتلتم الشيوخ والعجائز.. الأطفال والشباب.. النساء والرجال.. نهبتم الأموال وروعتم الآمنين.
فإن كنتم تفعلون كل هذا الفجور باسم الله.. فماذا يفعل الشيطان؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.