حاولوا إقناعنا ونحن في المرحلة الثانوية بمصطلح لا أعرف من أين أحضروه، وهو مصطلح كليات القمة، وكأن من يتخرج في غيرها أقل وأدنى، وهنا أتذكر جملة عادل إمام في فيلم (أنا وهو وهي) تلك الجملة التي قالها للراحل توفيق الدقن: (بلد بتاعة شهادات صحيح).
وبعد حصولي على مجموع ضخم في الثانوية، ذلك المجموع المؤهل لدخول إحدى كليات القمة المُدعاة.. أصبحت طالباً في كلية الهندسة.
(1) الطموحات
اعتقد البعض أنه عند تخرجه في كلية الهندسة سوف يكون قادراً على صناعة بذرة الرجل الحديد وينتظره مستقبل كمستقبل توني ستارك صانعها، آخرون ظنوا انهم سوف يصممون تحفاً معمارية تضاهي في روعتها برج إيفل، وتناطح في ارتفاعها برج دبي، أما من حاولوا أن يكونوا أكثر واقعية فقد تطلعوا لإنشاء مجموعة شركات كابن لادن السعودية أو إعمار الإماراتية أو أوراسكوم المصرية.. ولكن أعتقد أن الطموحات والآمال اختلفت بعد تلك الأعوام الخمسة هذا إن كانت خمسة فقط.
(2) الكلية
بادئ الأمر في السنة الأولى كانت المفاجأة كبيرة في المواد والعلوم التي نتلقاها، تلك المواد التي يتم شرحها شرحاً نظرياً بعيداً تمام البعد عن التطبيق، وبالطبع المعامل خربة وغير صالحة للعمل، أو صالحة ولكن لا تحتوي على الأدوات والخامات اللازمة، أو صالحة وتحتوي على هذا وذاك، ولكن غير مسموح لنا باستخدامها؛ لأننا عدد كبير وذلك قد يتلفها! كأننا في متحف يُسمح لنا بالمشاهدة دون الاستخدام أو اللمس، وعند الاعتراض أو إبداء الاستياء من ذلك الوضع تكون الإجابة (أعدادكم كبيرة ولا توجد ميزانية ونحن غير مسؤولين)، أي كما نقول بالعامية المصرية (اخبط دماغك في الحيط).
بعد تجاوز السنة الأولى ورسوب مَن رسب، وترك الكلية لمن ترك ودخولنا الأقسام، توقعنا أننا بانتمائنا للأقسام سوف يتحول الأمر إلى التطبيق أكثر منه نظرياً، وخاصة أن الأعداد قد انخفضت، ولكن الأمر كان مثل سابقه، ولكن الفرق الوحيد أننا لم نتفاجأ تلك المرة من دراستنا النظرية في كليتنا العملية.
(3) السادة أعضاء هيئة التدريس
كان التعامل طوال تلك السنوات بيننا كطلاب وبين أساتذتنا قائماً على منطلق واحد، هو نظرة الأساتذة لنا على أننا كطلاب لا نزيد عن كوننا مجموعة من الأوغاد لا يستحقون ما يمتلكه هؤلاء الأساتذة من علم غزير ومعلومات قيمة وكنوز مكنونة في عقولهم.
كما أن نظرة الاحتقار التي كانوا تعلو وجوههم دائماً عند التحدث إلينا، فنحن من نضيع أوقاتهم الثمينة التي من الممكن أن يستغلوها في أمور أكثر ربحية من قضائها في النقاش والشرح لنا، ولا أعرف إن كان هذا هو الوضع القائم في كل كليات وجامعات مصر، ولكنه هو الوضع في كليتي.
(4) النظام التعليمي
أما عن النظام التعليمي الذي يروج له المهندسون أنه نظام يعتمد على الفهم والذكاء، وأبعد ما يكون عن الحفظ، فهو إحدى الشائعات غير الحقيقية على الإطلاق، إشاعات مهنية مثل أن المحامين سيوف الحق والمدافعون عنه، وأن الأطباء لا تعنيهم المادة بقدر اهتمامهم بأرواح البشر، وأن الشرطة في خدمة الشعب، كلها أمور العكس بها هو الصحيح.
فالواقع أننا لا نحفظ الكثير من الكلام النظري، ولكننا نحفظ القوانين ونحفظ طريقة الحل وشكل المسائل، فنحن نحفظ المسائل كما هي، وإن قرر الدكتور تغيير المسائل فلا تتعجب من أعداد الرسوب الهائلة، وإن حدثك أحد المحاضرين بأن أهم شيء هو أن تفهم، وأن الامتحان ليس بذلك القدر من الأهمية، فكن على ثقة أنك لن تضع قلماً في امتحان ذلك المحاضر، نحن لسنا عباقرة، ولن نكون ورثة الفراعنة في التشييد، أو الألمان في الميكنة، أو اليابانيين في الإلكترونيات.. فذلك النظام التعليمي لا يخرج هؤلاء.. ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
(5) التخرج
حين يحين وقت التخرج، تكتشف أنك قضيت خمس سنوات من عمرك أو أكثر في عدم تحصيل أي شيء؛ لأنك في الغالب لن تتذكر ما درست؛ لأن هدفك الرئيسي كان الامتحان وليس الفهم؛ لأنك وبكل بساطة إذا حاولت الفهم لن تجد وقتاً للحفظ وسترسب، أي أنك قضيت خمس سنوات من أجل الحصول على شهادة ولكي يتفاخر بك أهلك، وتتفاخر بها أنت حتى تشعر أنك استفدت شيئاً من تلك السنوات.
(6) العمل
وبالحديث عن فرص العمل، فهي لم تعد متوفرة ومتاحة بالقدر الكافي لاستيعاب ذلك القدر الهائل من الخريجين، فلم يعد الوقت كما كان سابقاً، فلم يعد الخليج يتحمل ذلك القدر الكبير من المهندسين كما كان عليه في العقود الثلاثة السابقة، كما أن العراق وليبيا لم تعودا دولاً بالمعنى الحرفي للدول، كما أنه لم يعد هناك عاقل يذهب للعمل في تلك الأراضي، هذا إذا وجد عملاً أصلاً، كما أن مهنة الهندسة مرتبطة بالتطور الاقتصادي للدولة وتحسن أوضاعها، والوضع في مصر لا يحتاج إلى شرح، والحال في مصر ينطبق عليه المثل الشعبي (الضرب في الميت حرام)، وعليه فلم تعد الهندسة مهنة مضمونة المستقبل.
(7) عزيزي المهندس
وعليه هنيئاً لك عزيزي المهندس، ولتظهر عقدة النقص وتغير اسمك على صفحات التواصل الاجتماعي وتكتب قبل اسمك مهندساً ولا تنساه عند التخرج، إذا كنت لا تزال طالباً فحفلة التخرج المكلفة والصور التي تملأها السعادة بعدم تحقيق شيء مميز في سنواتك الخمس السابقة، ولتستعد لمرحلة التجنيد الإجباري لتضييع سنة أو ثلاث أخرى، ومنها إلى المقهى كعاطل.. أيها المهندس.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.