يا صديقتي أخبرتك كثيراً أنّ الله إذا أحب عبداً ابتلاه، وأنا أعلم يقيناً أنّ هذه حقيقة لا يختلف عليها عاقل أدرك رحمة الله بعباده، السبب المعلوم عند الأغلبية أنّ البلاء وسيلة لدفع الذنوب وتصفية صفائح امتلأت بما يُغضب الإله. الحق يقال، هو ذاك ولكني في سنواتي الأخيرة اكتشفت فائدة غير مسبوقة المعرفة لأن تكون مبتلى.
الابتلاء هو مصفاة يمرّ فيها الناس واحداً تلو الآخر، يبقى أولئك الذي لهم قيم ومواقف تسمح لهم بالتمسك بمكانتهم لدينا، وأن لا شيء يغيّر معادنهم. وعلى النقيض تماماً، يقطن في هذا الكون أناس أشبه ببالون منفوخ يعبّر عن معناهم في حياتنا ثم يأتي الابتلاء شبيهاً بدبوس يعيدهم إلى حقيقتهم التي لطالما لاحت في الأفق فتجاهلناها. يصبح للناس مقامات اختاروها لأنفسهم وسعوا للحصول عليها بملء إرادتهم.
ما حدث العام الماضي كان الابتلاء الذي ما توقعت نتائجه أبداً، كان الأمر أشبه بوجودي في مكان محاط بجدار كبير، أشبه بخلفية حاسوب تمتد إلى ما لا نهاية، مليئة بالورود البنفسجية، وجداره تملؤه أزهار في كل قطعة منه حتى ما تكاد ترى أي شيء خارج مكانك. هبَّت عاصفة شديدة، لم يصمد هذا الجدار كثيراً، فبانت حقيقته ووقع عن بكرة أبيه، ولم يبقَ منه شيء فتُركت أنا للشارع. كانت الأرض موحلة كثيراً، احتجت لقوة عظيمة ودعم كبير حتى أصمد، تُركت وحيدةً قليلاً ثم استبينت الذي معي والذي عليّ.
حدث يومها أن رأيت أناساً قرروا أنّ الوحل معي أفضل من سكون بدوني، ضحوا بأمان أنفسهم لأجلي، تَرَكُوا موضعاً ارتضوه ليكونوا مع شخص ارتضوه أكثر. ارتخيت بين أيديهم كثيراً، استسلمت للظروف دون أن يتركوني أصدِّق ذلك، تركت نفسي أضيع دون أن يسمحوا لي بالضياع، خاضوا الصعاب تاركين الراحة لأجلي، كمن آثر السير على طين هطلت عليه أمطار كثيرة على السير على طريق معبّد تحدّه أرصفة، هؤلاء هم جائزتي الدنيوية من الابتلاء وهم جائزتي من هذه الحياة.
آخرون وهم الأغلبية بقوا في برّهم الآمن، كانوا يحاولون أن تتعالى أصواتهم بكلمات تشجيعية بين الفينة والأخرى، يحاولون أن يكون لهم دور دون أن يكونوا في ذات الموقف، ومتى ما اضطروا أن يمضوا بدوني مضوا بلا سابق إنذار وبدون اعتبار لوجودي، هذا حق لا يحاسبهم عليه أحد ولا يطالبهم أحد بأكثر من ذلك، فجزاهم الله الخير على ما حاولوا.
قلة كان لهم الدور الأكبر في أذيتي حين أعرضوا عني إعراضاً تملؤه الأذية، تركوني وأرادوا أن يستغلوا هذا الموقف حتى تكون عظامي مادة صلبة ليصنعوا سلماً لنجاحهم. رأيت الشماتة في عيون البعض، رأيت اللامبالاة في عيون آخرين، ورأيت الفرح في عيون قلة أخرى، كان التعامل مع هؤلاء يشابه طعناً في أعماق أوصالي ويزداد العمق كلما زاد قرب الذي يطعن مني.
تعلمت، تعلمت من هذه التجربة أن لا أعطي أحداً فوق قيمته، لا أعطي أحداً فرحاً أنا أولى به، لن أبكي على من تركني، ولن أحارب لإعادة من اختار الرحيل حين رجوت بقاءه. أنا أشكر أولئك الذين صافحوني عندما أنقذني الله من ذلك الوحل، ولكن امتناني لهم ينتهي عند هذه المرحلة، لن يكون كامتناني وتقديري للذين ضحوا لأجلي، ولن يُقدّْموا على وجع أحتاج أن أستأصله من داخلي ولكن لهم عليّ إعانتهم بلا مِنّة أمارسها عليهم. وَأَمَّا بالنسبة للذين اختاروا أن يكونوا أعدائي في وقت أكثر ما أردته هو صديق، فالله يعلم كيف عانيت، ويعلم من إعراضكم كم بكيت، والله هو الذي يجزي كل مخلوق بما يستحق ولنا في يوم الحساب عبرة وموعظة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.