عسى الحزن يذبل

صدقني حين أقول لك إنه حتى حين رحيلك كنت أظن الموت خرافة، لا تمس إلا الآخرين، أما أحبتنا فباقون، لسبب ما ظننتك معمّراً، وأن السنوات أمامك طويلة حتى تكاد لا تنقضي.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/04 الساعة 01:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/04 الساعة 01:07 بتوقيت غرينتش

صدقني حين أقول لك إنه حتى حين رحيلك كنت أظن الموت خرافة، لا تمس إلا الآخرين، أما أحبتنا فباقون، لسبب ما ظننتك معمّراً، وأن السنوات أمامك طويلة حتى تكاد لا تنقضي.

"لم أفكر للحظة أنه راحل"، أضمها فتردد ذات الجملة في ذهول، تمنيت لو أن حضني أكبر ليسعها وأحزانها، لكن قلبي المرتعش ككف عجوز عارٍ إلا من الوجع، يطلب من يمده بالسكينة، أما قلبها فينبض للمرة الأولى ببطء، وكأنه يتلقى الخبر فيتشربه جرعات لئلا يتوقف هو الآخر عن الخفقان، تضم ملابسه كأنما تتمسك بآخر ما تبقى من رائحته، تكفكفُ دمعها فينهمر قوياً ليذكرها أن كل هذا الألم حقيقي، كأن كل حواسها قد احتشدت لتمتص هذه اللحظة وتخزنها في الذاكرة.

أفكر كيف سيغادر الحزن أمي يوماً؟ وإذا كانت جروح القلب الغائرة ستندمل حقاً، وملح الدموع لا ينفك يزيدها عمقاً، وإذا ما كان النسيان مُعيننا أم هو مجرد وهم آخر؟ الثقب داخلي يزداد اتساعاً، يبتلع كل شيء ولا يتوقف وكأنه سيكون هناك أبداً، أخفي وجهي بين كفي وأبكي ألماً وخوفاً؛ لأنني لم أدرك معنى الموت من قبل، لم أعرف أنه قدرٌ لا يُفلتُ صيده إذا رماه، وأنه أقرب إلينا مما نتوقع.
يحج الناس إلى البيت، وعلى أفواههم الجملة نفسها: "لقد كان رجلاً طيباً".

نعم لقد كنتَ كذلك، ثم رحلتَ بهدوء، تماماً كما عشت حياتك بهدوء، لو أعلم حين ضممتني آخر مرة أنها ستكون الأخيرة، لمكثت في حضنك مدة أطول، ولطلبتُ منك أن تدعو لي كما كنتَ تفعل دائماً، لقد منيتُ نفسي بأشياء كثيرة، لكن الموت جاء في غفلة منا وضمك إليه لترحل عنا بعيداً، طبقات الوجع داخلنا من ذا الذي يزيلها؟

يقولون ويعيدون إن الوقت كفيل بأن ينسينا، كفيل بأن يضمد الجراح ويهدئ من آلامها، لكن، ماذا لو كان الوقت نفسه هو الجرح يذكرنا كلما مرتِ الساعة إثر الأخرى أنه علينا أن نتعايش مع شجونا ما تبقى لنا من العمر، وأنه ليس بإمكاننا إعادة الزمن إلى الخلف عساه يهبنا مرة أخرى أُمْنِية أخيرة؛ رؤية أولئك الذين فارقونا قبل أن نودعهم، قبل أن نتقبل فراقهم، قبل أن نحبهم أكثر وأكثر..
سعادة الدنيا لا تنفك تتقلص قبل أن تكتمل، ومشكلة الحياة أننا نعيشها دفعة واحدة.

كلما دلفت غرفتك ضاق صدري، أكاد أراك مستلقياً على سريرك ضاماً منديلك بيديك اللتين غزتهما التجاعيد وبانت عروقهما، وجو الغرفة يعبقُ بعطرك، ودمعي لا يجف، وكل الأحضان التي تحتويني لا تكفيني لتُلملم شتات روحي المبعثرة.

أحبتُك يبكونك، كل منهم في ركن قصي يخلو إليه، وكل عبارات التعزية لا تشفي غليلهم.. وكأنهم ينتظرون كفك الحنون لتربت على قلوبهم المحملة بوجع الفراق وتخبرهم ألا يحزنوا على فراقك، وأنك الآن في مكان أفضل، وأنك مرتاح أكثر.

خشيت أن تخذلني ذاكرتي فتمارس النسيان على وجهك بملامحه الهادئة، وأن يغيب عني صوتك، وصوت ضحكاتك القليلة، لكني سعدت أنني كنت ألتقط لك سراً صوراً رغم رفضك، هي وحدها تذكرني بك إن خانتني يوماً تلك الذاكرة.

لقد رحلتَ يا جدي، رحلت قبل أن أعترف لك للمرة الأولى والأخيرة أني أحبك كثيراً، وأن ذكرياتي المعدودة على رؤوس الأصابع معك لا تكفي لتملأ الفراغ بداخلي، وأني ما صدقت ولا عرفت ما الموت حتى أصابني منه الضرر بفقدك، وأني أحاول جاهدة أن أضمن نصي هذا خلاصة حزني عساه يغادرني حين أنتهي من كتابة هذه الكلمات، لكن أشياءك التي أحببتها لا تزال هنا تخبرنا أنك ببساطة، ما عدت سوى جسد قد غادرته أنفاس تتردد.

رحِمك الله يا طيب القلب، وأسكنك فسيح جناته، وأبدل محبتك صبراً، عسى الحزن يذبل ويهدأ مع الأيام، ولا يبقى إلا دبيبه الخافت في القلب؛ ليغيب بعدها كما تغيب شمس العصر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد