الغواية الداعشية حزن ثم حماسة ثم حكايات وروايات عن بطولات الرموز من مدونات الموروث المقدَّس، فمفاتحة لأخذ البيعة وتنفيذ العمليات الإرهابية، وتعتمد على العديد من العوامل من أجل الوصول للجمهور المستهدف والصعود بالتدرج مع عقلية وعاطفة كل فئة على حدة، والتأثير في الجمهور المستهدف بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب.
الغواية الداعشية سبقت كل منصات الإعلام للتنظيمات المسلحة في صناعة التأثير والإخراج النوعي، وبصناعة الصورة بتقنيات حديثة وبمهارات متميزة، ولها لمسة إبداع في الفيديوغرافيك والإنفوغرافيك ورسم الخرائط.
والسبب أن ديوان الإعلام في داعش يعمل وفق معايير وتقنيات العصر، وبحسب الوثائق التي عثر عليها في المدن العراقية المحررة، أن ديوان الإعلام الداعشي يتابع كل التحديثات الخاصة بالتطبيقات وبرامج المونتاج والتحديثات الخاصة بتطوير وضوح الصورة والصوت، وذلك من خلال إدراكه أن ملف الإعلام صنعة متكاملة من تقنيات التكنولوجيا وموهبة فنان مبدع، ومهارات متخصصة وخبرات مهنية متمكنة في صناعة الفبركة والغواية التي تعتمد على دمج النصوص الدينية والأناشيد بصوت حزين وحناجر تسعر الحرب، وتملأ القلوب والنفوس بالكراهية.
الكثير من إصدارات داعش نجحت رغم أن القصة مكررة المضمون وسخيفة الغاية وقذرة من حيث الشكل، لكن التصوير والتقنيات الحديثة واختيار التوقيت بشكل ذكي والإخراج المتميز والمعادلات والمؤثرات البصرية والصوتية عالية الجودة واللغة العربية الفصيحة والتمكن من فن الخطابة، عوض عن ضعف الفكرة والقصة.
أثبتت التحقيقات مع مراسلي ومصوري وإعلاميي داعش أن أكثر ما يشد جمهورهم لإصداراتهم أنها تعالج روح الكراهية والانتقام، ومشكلات نفسية لهم بها صلة مثل الجنس والشهوات الخفية، وحب المال والسلطة والرئاسة، وتعالج بحثهم عن فتاوى شرعية لتبرر توحشّهم وسلوكهم العنيف عبر تلك الإصدارات.
فالذبح بالسكين والتوحش في إزهاق الأرواح بالحرق والإغراق والعمليات الانتحارية عناصر أساسية لدى المشاهد الداعشي؛ لذلك أغلب الإصدارات تؤكد على هذا المحتوى، ويُعرج على موضوع الغنائم والسبايا التي تحرك مشاعر أخرى لدى المشاهد الداعشي.. وبالتالي تحقق احتياجاته الشهوانية، وتغطي حاجاته الحيوانية، وتصرف طاقته الغضبية.
الغواية الداعشية اعتمدت على مخاطبة العقل الباطن للمشاهد الداعشي، وفرض الغشاوة على وعيه، وغالباً ما تستند في ذَلِك على صناعة البطل والرمز المقدس، وهم يعتمدون في الغالب على سيرة الزرقاوي وأبو محمد اللبناني وأبو أنس الشامي وأبو عمر البغدادي والمهاجر، وتسرد بعض أقاويلهم التي تشبه سجع الكهان وسحر الشعراء، والتي تبرر انفعالات التوحش الداعشي وترضي عواطفه المتناقضة.
الغواية الداعشية استطاعت إقناع المشاهد الداعشي أن ما يشاهده هو الصدق، وما عداه هو الكذب والتدليس، وأن ما يشاهده واقع وحقيقة، وناشر وناقل لعقيدته ومنهجه من داخل العزلة إلى الشاشة من أجل الدعوة، وإقامة الحجة بوصول البلاغ إلى أكبر فئة من الناس.
الغواية الداعشية مهمة جداً ضمن وظائف الهيكل التنظيمي لداعش، وليس بالضرورة نجاحَها بشكل كامل، وعندهم الاستمرارية بنشر إصدارات قصيرة أو صوتيات حماسية وحزينة أو إنفوغرافيك أو بيان هي إحدى الغايات، ولا بد أن يستمر النشر لخلق الانطباع والتأكيد على تكرار الرسائل التي تريد قيادة داعش نشرها.. الغواية الداعشية خلال ثلاث سنوات قد تكون نجحت بصنع وتسويق قيادات داعشية أو عقائد دينية أو فقهيات شاذة لأغراض التمايز عن التنظيمات المنافسة.
منصات داعش الإعلامية وحسابات أنصارها في الإعلام الاجتماعي لديها هوس بتكرار ترويج الإصدارات، ورصد المعلومات المضادة لمنهجها، ومهاجمة الحسابات التي تنشر خلاف ما تؤمن به، وأيضاً تعمل على إفساد الهاشتاغات التي تتغنى بالنصر عليهم، أو التي تكشف زيف وكذب غوايتهم الإعلامية، بين توظيف مواقع التواصل الاجتماعي وأنصار داعش علاقة دينية طائفية، قد تكون بدافع الكراهية أو العقيدة أو بدوافع مخابراتية لتبادل المنافع الإعلامية بين الطرفين.
تقوم الهيئات الشرعية الداعشية بتدريب بعض الصبيان والفتيات لمدة تصل إلى 18 شهراً في مسائل التوحيد وعقيدة الولاء والبراء، ومسائل الجاهلية والتعريف بالآخر وفقهيات الترهيب من الكبائر، والترغيب بمسائل الجهاد، وإقامة الحدود في معسكرات أو مساجد معزولة متخصصة.
هذا النوع من الدراسة والتدريب يعتمد على التزكية والتاريخ الأسري لهؤلاء الفتيان، لمنع عمليات الاختراق الأمني أو التداخل العقائدي، فغالب هؤلاء من عوائل وأسر تميّزت بتدينها وفق مناهج التطرّف البدوي!
يقوم المراهقون والمراهقات بعد اجتياز الدورات المركزة بعدة وظائف مساندة منها الحسبة في الأسواق والشوارع، والتحريض على القتال، ونشر المطويات والملصقات والسيديهات في المنصات الإعلامية، وكلهم يقدم تقارير يومية يتجسس فيها على الناس، وحتى على عائلته.
شاهدت مجموعة من الإصدارات التي نشرتها منصات تابعة لداعش على تويتر واليوتيوب وغروبات التيلغرام؛ كانت تركز بقوة على إمكانيات هؤلاء المراهقين وتدريباتهم ومهاراتهم في الخطابة والإلقاء وجودة التعبير، ما تجعله مؤثراً على الجماهير أمامه.
والعجيب أن بعض الفتيات منهم لديهن من مهارات الإلقاء والتأثير على النساء بشكل مذهل، وخاصة في إلقاء الشعر وإنشاد الأناشيد والوعظ وهم يختارونهن من بنات تلك الأسر وأبناء قتلاهم وأراملهم، وهن الطاقات البشرية الأهم في نقل البريد والتجسس ونقل الأموال، ومرافقة الجرحى، ومتابعة ملفات السجناء، وملفات كفالات أهالي وأيتام قتلاهم، وهن الأكثر تطوعاً للقيام بالعمليات الانتحارية، ولديهن الدور الأبرز في مناصرة الحسابات على تويتر والفيسبوك، وحملات الجذب والتجنيد.
أغلب هؤلاء لم يتم رصدهم ضمن قوائم الإرهاب، ومن يلقى القبض عليه يطلق سراحه؛ كونهم لم يبلغوا السن القانونية للمحاسبة، وهذا أمر خطير كونهم رأس مال داعش وخزينتها العقائدية للمستقبل القريب والمتوسط.
نجحت داعش في جذب جمهور واسع من هذه الفئات العمرية، وهم في فرع العراق ليسوا أقل من 3000 من الجنسين بالذات الأنبار ونينوى، واستطاعت داعش أن تملأ عقولهم بالتطرف وقلوبهم بالكراهية، فضلاً عن السيطرة على إرادتهم.
ماذا عن التربية والتعليم والأوقاف والإعلام في المدن التي تحررت من داعش هل لديها برنامج لمعالجة هذه العبوات البشرية؟
علماً أن هذه المؤسسات الحكومية عادت إلى وظائفها بدون تأهيل أو تدريب لمجابهة هذه الأمراض وتشخيصها، وأظن أنه لا مجال للتجارب وحسن الظن!
للنجاح في التصدي لهذا الخطر لا بد من مهارة الحوار، وجودة في العرض، والقدرة على التأثير بالمراهقين، لكن مع الأسف تجد الكثير من الكوادر في تلك المؤسسات يفتقد إلى أدنى متطلبات تشخيص الفكر المتطرف ومعرفة علاماته ووصف علاجه!
يجب أن نحترم المهنية ونلجأ إلى تجارب الآخرين وتجربة الجزائر تعتبر هي الأنجح والأقرب إلى بيئة نينوى والأنبار وصلاح الدين في معالجة هذه المخاطر، والتعامل معها بطريقة صحيحة، ومن يريد اجتثاث التطرف من جذوره يجب أن يُدرب كوادر التربية والتعليم والأوقاف والإعلام في المدن المحررة من داعش، حتى يؤثر في الناس، والسلاح وحده لا يكفي، خصوصاً مع الخيارات الضخمة لدى هذه الفئة العُمرية في التخفي ونشر أفكارها المحرفة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.