قامت القناة الفرنسية Cine+ Classic، في 12 سبتمبر/أيلول 2017، بعرض الفيلم الثوري "معركة الجزائر"، الذي يجسد بطولات الكفاح الجزائري خلال الثورة، ويبرز مدى بشاعة الاستعمار الفرنسي.
ويأتي عرض الفيلم -بحسب الناقد السينمائي الجزائري محمد علاوة حاجي- بالتوازي مع احتضان مدينة تولوز الفرنسية مهرجاناً ثقافياً بعنوان "زوم على الماضي"؛ لذا بثَّت القناة الفرنسية هذا الفيلم مع أعمال أخرى.
40 عاماً من الحظر
فيلم "معركة الجزائر"، كان ممنوعاً من العرض بدور السينما الفرنسية منذ إنتاجه سنة 1966، أي بعد استقلال الجزائر بـ4 سنوات.
ويقول الأستاذ والباحث في التاريخ الجزائري بلال بارة، إن بعض الفرنسيين حاولوا عرض الفيلم بدور سينما خاصة آنذاك، واستشهد بما حدث عام 2005، عندما تم عرض الفيلم، وسط باريس.
ويضيف لـ"عربي بوست" أنه في فرنسا كان يُمنع أي عمل يوثق للثورة الجزائرية؛ "بل تحاول أطراف كثيرة تمجيد الاستعمار بأعمال سينمائية بُثت في أكثر من نطاق، وعندما تم عرض (معركة الجزائر) في 2005، ولقي مشاهدة كبيرة، تمت متابعة دار السينما حينها قضائياً"، حسب قوله.
هذا الإجراء الذي قامت به السلطات الفرنسية حينها، بحسب بارة، كان سبباً في تخوُّف القنوات من بث أي عمل سينمائي جزائري ثوري، حتى جاءت قناة Cine+ Classic مؤخراً وبثته.
وكانت صحيفة "الشروق " الجزائرية أكدت أن الفيلم الممنوع من العرض بفرنسا منذ 40 عاماً، تم بثه عبر قناة Cine+ Classic، وبتقنية الـHD، رغم أنه حافظ على أصله الذي أُنتج عليه بالأبيض والأسود.
خطر على أمن فرنسا
السينمائي الجزائري أحمد راشدي، الذي أخرج العديد من الأفلام التاريخية والثورية، يرى أن فرنسا كانت -وما زالت- متخوفة من مثل هذه الأعمال السينمائية، بدليل الرقابة التي كانت مسلَّطة على دور العروض بعد الاستقلال.
راشدي، وفي حديث مع "عربي بوست"، يؤكد أن وزارتي الداخلية والثقافة الفرنسيتين تعتبران الأعمال الثورية الجزائرية تهديداً حقيقياً لأمنها القومي؛ لأنها وثقت لإحدى الفترات التاريخية السوداء للبلد، حسب رأيه.
ويردف: "(معركة الجزائر)، كان -وما زال- الفيلم الذي يُرعب فرنسا حتى لو كان عبر الشاشات، بعدما كان خلال الثورة فيلماً واقعياً، وكان مخرجيه الحقيقيين مجاهدو جيش التحرير الوطني، وفرنسا حتىالآن لا تريد لأبنائها معرفة هذه المعركة".
وهو ما يذهب إليه الباحث في التاريخ الجزائري بلال بارة، الذي قال: "كثيرون هم الفرنسيون الذين يخجلون من ماضي وطنهم الاستعماري، وفيلم كـ(معركة الجزائر)، يوقظ فيهم ذلك الإحساس وهو ما تتخوف منه فرنسا، رغم مرور السنين"، حسب رأيه.
العداء للفن السابع
الناقد السينمائي الجزائري محمد علاوة حاجي، يؤكد أن السينما الجزائرية كانت عدواً دائماً للسلطات الاستعمارية الفرنسية، حتى إبان حرب التحرير؛ لذا فهي في نظر فرنسا عدو الأمس واليوم والغد.
ويقول حاجي لـ"عربي بوست" إن "بدايات السينما الجزائرية ارتبطت بالثورة التحريرية، إذ كان الفن السابع سلاحاً آخر استخدمه المناضلون الجزائريون لخدمة قضيّتهم، وكان من الطبيعي أن يتعامل الاستعمار الفرنسي معها بعدائية".
ويردف: "رغم ترحيب الكثير من الأوساط الفرنسية بالنقاشات حول ماضي بلادهم الإجرامي في الجزائر، هناك أصوات تصرّ على أنها لعبت دوراً إيجابياً، وهؤلاء يمثّلون ما يسمّى في فرنسا (النيوكلونيالية)، وهي التي تقف ضد كل ما يذكر الثورة الجزائرية بإيجابية ويكشف جرائمهم".
وحساسية فرنسا من الأعمال التلفزيونية الثورية -بحسب محمد علاوة حاجي- لم تتوقف عند معركة الجزائر، فيقول: "موجة الجدل التي رافقت عرض فيلم (خارجون عن القانون) للمخرج الفرنسي من أصول جزائرية رشيد بوشارب، في فرنسا عام 2009، وصلت إلى حدّ مطالبة بعض الأوساط الفرنسية بمنع عرضه".
مصالحة ثقافية مزيفة بأبعاد تجارية
الناقد السينمائي الجزائري عبد الكريم قادري، يرى أن عرض فيلم "معركة الجزائر" على قناة Cine+ Classic، خارج عن توقعات الجزائريين، رغم أن الواضح فيها تغليب المصلحة التجارية للقناة.
ويؤكد قادري لـ"عربي بوست"، في هذه النقطة، أنه "من الصعب فهم العقلية الفرنسية التي تسير هذه القنوات؛ لأنه من حين لآخر تكسِر أفق توقعنا نحن كجزائريين، مثل عرضها للفيلم الجزائري (معركة الجزائر)".
المصالحة الثقافية التي تنشدها أطراف فرنسية في نظر قادري، "مصالحة مزيف، يثبتها واقع التعاملات مع الأعمال الجزائرية"، حسب قوله.
ويقول الناقد في هذا الشأن: "عندما حصد فيلم (معركة الجزائر) جائزة الأسد الذهبي من مهرجان فينيسيا بإيطاليا سنة 1966، احتج الوفد الفرنسي وغادر القاعة، والصحافة أقامت الدنيا وأقعدتها، كما لا يمكن أن ننسى المظاهرات التي صاحبت عرض فيلم (خارج القانون) لرشيد بوشارب في 2009".
هذا، ويضيف المتحدث: "لا يمكن الخروج بنتيجة عرض هذا الفيلم، فقط توقعات، ومن بين هذه التوقعات أن يكون الغرض تجارياً بحتاً. أما المصالحة الثقافية بيننا، فهو أمر يصعب تصديقه، في ظل المعطيات السلبية المتوافرة".
وثائق وكلاسيكيات
يرى بعض المتابعين أن عرض فيلم "معركة الجزائر"، بالنسبة لفرنسا ما هو إلا وثائق وكلاسيكيات الماضي.
وفي هذا الشأن، يقول الناقد محمد علاوة حاجي: "اليوم، بات الجانب الفرنسي ينظر إلى الأعمال التي أُنجزت خلال تلك الفترة كوثائق تاريخية، وهو ما نلمسه في هذه التظاهرة، التي من الواضح أنها تتعامل مع فيلم المخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو، وغيره من الأفلام التي تنتمي إلى النوع نفسه، كوثائق تاريخية".
ويرى الفرنسيون، كما يكشف علاوة، أن "هذه الأعمال تسلّط الضوء على فترةٍ من التاريخ المشترك بين البلدين، خاصة بين الجزائر وفرنسا، وهو المنظور الذي لا يزال يثير الكثير من الحساسيات".
الإعلامي الجزائري كريم بوسالم، وفي حديث مع "عربي بوست"، يرى أن فرنسا تؤكد بهذا العرض أن الماضي لا يشكل بالنسبة لها عقدة، وترى أن الأجيال تغيرت وأن استيعاب الفيلم لن يكون كأيديولوجيا بقدر ما قد يكون عرض كلاسيكيات أفلام الحرب العالمية الثانية.
بالون اختبار ماكرون
عرض هذا الفيلم الذي يوثق لمرحلة انتقال المقاومة الجزائرية من الجبال والبادية إلى العاصمة، في نظر الباحث بالتاريخ الجزائري بلال بارة، قد يكون بالون اختبار للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
ويقول لـ "عربي بوست" إن الكل يعلم بوعود إيمانويل ماكرون في حملته الانتخابية بإعادة نظر بلاده إلى المستعمرات، ومن ضمنها الجزائر، وهو ما ترجمه الجزائريون بتمهيد الاعتراف بالجرائم.
ويردف: "أعتقد أن عرض فيلم (معركة الجزائر) يكون بمثابة (بالون اختبار) وضعه الرئيس ماكرون ليعرف رد فعل الشارع الفرنسي، وتجاوب الجماهير مع الفيلم".
ويضيف: "أعتقد أن وزارة الإعلام الفرنسي كانت تعرف بموعد عرض الفيلم والقناة التي ستقوم بذلك، وقد تظهر لاحقاً بوجه المستنكر لعرضه في حال تعالت الأصوات المنددة بذلك".
بشاعة الاحتلال
"معركة الجزائر"، من الأفلام الثورية التي لاقت نجاحاً كبيراً، وبُث في عدد من الدول العربية والغربية.
وفوق ذلك، بحسب المخرج أحمد راشدي، "فقد تم عرض الفيلم بمقر وزارة الدفاع الأميركية، قبل عرضه في عدد من دور السينما بواشنطن ونيويورك".
كما قامت بريطانيا سنة 2004، وبالموازاة مع احتفال الجزائر بخمسينية الثورة، بعرض الفيلم في عدد من دور السينما.
ويعرض الفيلم في ساعتين مرحلة تاريخية، بحسب الباحث بلال بارة، بعد نقل المقاومة أواخر 1956 وأوائل 1957، إذ كشف المجاهدون حقيقة الثورة التي لم تكن لعصابات أو إرهابيين كما كانت تروج لها فرنسا؛ بل كانت ثورة تحررية بلغت قلب العاصمة.
الفيلم أنتجه المخرج الإيطالي الراحل جيلو بونتيكورفو عام 1966، من بطولة الممثل ياسف سعدي في دور "جعفر"، وإبراهيم حداد في دور "علي لابوانت"، وجون مارتان الذي تقمص شخصية "الجنرال مارتان"، ويعتبر هذا العمل التاريخي الجزائري الأضخم من ناحية التكلفة آنذاك.
كما ينقل الفيلم صوراً لأبشع الجرائم الفرنسية في الجزائر، وهو ما جعل الفيلم في عين إعصار السلطات الفرنسية إلى يومنا هذا.
أفلام وثائقية
بالنظر إلى حجم الفيلم وتأثيره، اهتمت العديد من المؤسسات الإعلامية بتسليط الضوء على "معركة الجزائر".
وقامت قناة "الجزيرة الوثائقية" في قطر سنة 2013، بإنتاج فيلم وثائقي من 45 دقيقة لقي متابعة الآلاف، وجمع تصريحات المجاهدين وجنرالات فرنسا الأحياء، حول معركة الجزائر.
وأجمع المؤرخون الذين تحدثوا في الفيلم على أن معركة الجزائر، كانت جديرة بأن تدرس في جامعات العالم؛ لأنها رمز للتحرر ومقاومة الاستعمار والاستبداد.