فكرتُ فيك منذ سنوات طويلة، ومع فارق التشبيه، وعدم جواز أن يخاطبك مثلي بضمير المخاطب المفرد، إلا أنني لا أكتمك "واضحة" منذ تفتح وعيي على هذا الوجود، وأنا أفكر "مليّاً" فيك، ومنذ علمتُ وعرفتُ أن مهمتي الرئيسية في هذا الكون هي التفكير والتدقيق ثم التحليل ومن ثمّ الكتابة، وروحي تسعى إليك بأسئلة لا نهاية لها، وكان ما يحيرني وزال: أنني لا أجد لها قراراً أو نهاية!
رأيتُك هناك في وحدتي!
إذ لا يجوز لمثلي بحال من الأحوال أن يراك، وقلبتُ نظري في الأرض قبل السماء باحثاً عنك، وقلتُ لنفسي:
– يقول الصحاب إن عليَّ أن أختبر وجوده، وإن عليَّ أن أختار إذا ما كان موجوداً أم هناك ادعاءات من بشر "يفهمون أو لا يفهمون" فهذا أمر يخصهم، ولكن ما يخصني:
"هل أسير في الحياة في ظل وجود ما ولا وجود له فأضل من حيث أردتُ لنفسي تمام الخير".
وساءلت المدى في ليالٍ مظلمة ببني مزار بـ "المنيا"؛ إذ إن "الرجل" الوحيد الذي كان دليلي وهاديّ إليك تُوفي مبكراً.
وأصل الحكاية أني كنتُ في حياته أبكي مراراً وتكراراً لما اجتمعت نساء العائلة قبيل تاريخ عيد الفطر الأول يزينون "الغُرّيبة"، وينمقون "المبثوث"، أنواع من العجين يستقبل بها أهل بلدي العيد الصغير عيد الفطر، فقالت إحدى بنات عائلة أمي:
– حذارِ يا "….." أن يقع من يدك على الأرض!
فأجابتها صاحبتها إجابة "مُخرّسة":
– فكيف بنا إن دُفنا فيها؟!
– لا يا "أُختي" سأوصيّهم أن يدخلوا معي و"يُؤنسوا" وحدتي!
وهنّ يتضاحكن بملء أفواههن، كان "الفتى" برأي "طه حسين" رحمه الله، بقربهم، بنظارته الحديثة التركيب، يسأل نفسه:
– وهل أدخله دون عدساتي.. والصداع الرهيب الذي حدَّثَ الطبيب عنه أبى أنه يجتاحني دون النظارة.. كيف لي باحتماله هناك؟!
و"طار" إلى أحب الخلق من الأحياء إليه بالسؤال، فنظر إليه جيداً، ثم احتضنه قائلاً:
– ستبكيني طويلاً.. طويلاً يا حبيبي.. ليتني أستطيع أن أفارقك.
كان أبي أكثر من رأيتُ لماحية وقراءة لما في نفسي -رحمه الله- فلي عنه حديث طويل بعد مرات قليلة، وكم قال لي:
– أنا وأنت روحان تم اقتسامهما في هذا الوجود؛ لذلك أعدتُ "تربية" روحي فيك من جديد، أعززتُك من حيث "رأيتُ" أن الحياة "أنقصتني" في الصغر، ولم "أجبرك" على شىء آلمني إجباري عليه، مهما كان، لكني في المقابل جعلتُ من روحي "مرافقاً" لك حتى بعد وفاتي، تلك "أنفاس" تربيتي فيك يا بُني" لن تنساها ولن تنساني بها!
لكني ليلتها بت باكياً أن سيموت أبي وأعيش في هذا الوجود من بعده.
وقال أبي عن "قبري" بلا نظارة:
– فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد..!
وساءلتُ نفسي ليلة مات أبي:
– هل ستقسو الحياة عليَّ.. ولكني كنتُ أحب أبي أكثر من أي أحد من البشر الذين أعرفهم، مع أني أحب أحداً "آخر" أكثر من الوجود كله.. فهل ستقسو الحياة عليَّ؟!
كان -رحمه الله- قد دلني إلى الطريق قبل مفارقته لي، وإن كانت الأعوام التي عاصرتُ الوجود في حياته قليلة.. قال لي:
– أعمارنا، أيا حبيب، قصيرة فعلاً.. ويزيد من قصرها أنها تمر علينا مع أحبابنا، ككل لحظات الفرح أقصر؛ لذلك ستفتقدني ولن أفتقدك، بكتاب الله في جوفي سوف أشفع لك.. ألا تدخل غير الجنة.. لكن في المقابل.. عِدني، فأنت ستكون ذا مواصفات خاصة تجعل طائفة من البشر غير قليلة تميل إليك، عِدني، يا بُني ألا تعترض على حكم ربي.. حتى بغيابي.. أو ترتكب كبيرة تُقصيك عني.. بعد الدنيا في الآخرة!
ليلتها لم أستطِع أن أعده من كثرة ما بكيت، وقال، رحمه الله:
– جعلتني "أندم" أن قلتَ لك.
لم أستطِع القول له لا تندم.. ولكني عاهدتُ ربي ألا أفعل ما يجعل أبي يحزن مني، بعد وفاته كما في حياته!
وكم من صغيرة تألمتْ نفسي بقسوة أن أبي لم يكن يحب أن يراني عليها.
وكم من خيانة عرضتْ لي بالصدفة، "قدراً" فالكلمة الأخيرة أجمل وأوعى فما من شيء جاء الوجود مصادفة، وكم من فرصة للصعود و"التسلق" حتى شهور قليلة تجددت بأعتابي، في الغربة كما في مصر، كم من "فتنة" من فتن الدهر "دعتني" إليها، وقبل أن "تفتح فاها"، أو تصوب فتنتها كان خيال "أبي" يقف بيني وبينها!
وكم من بلايا جرّها على "الفتى" الرفض ثم الإصرار من بعده على عدم فضيحة الذين "رفضهم"، وإن عملوا بأصلهم.. وكم من مدعي الثراء.. بل وكونهم من الأخيار تعرضوا بـ"فتنهم" لهم وردهم بلطف، فاضطروه لغيره.. ورفض فضيحتهم.. وانتظر من "ربّه" الثواب!
وبعد أبي.. راح التفكير مني وعاد!
أدقق في ظلام الليل بـ"المساكن الغربية" ببني مزار، أبحث عن القمر في السماء وأسائل نفسي:
– كيف يحيا وجود بلا قمر؟!
وكم من ليلة حزنتْ، وتعرفتُ على أغنية فتهتُ باحثاً عن "معرفة" و"حنان" بل عن "روح" أبي، وعرفتُ الطريق إلى دور العرض السينمائي في "المنيا" بالاس.. وميامي، حتى ليلة امتحان "التيرم"، وقبلتُ أن "أشيل" المادة في "الصيف" لمجرد مشاهدة فيلم "مولد يا دنيا"، عفاف راضي وعبدالمنعم مدبولي ومحمود ياسين، إخراج حسين إمام، أوائل السبعينات، وكانت إدارة السينما تتعمد أيام الامتحانات النزول بأفلام مميزة على الأقل لمثلي، ولكني رفضتُ المشاهدة مع "زميلة" وقد دعتني..وقلتُ لنفسي:
– هذا ذنب أحتمله.. وتلك خيانة ممعنة لا أحتملها!
ليلتها جاءني في المنام قائلاً:
– غالباً غداً ترسب للمرة الأولى في حياتك، لكننا لم نتعاهد على هذا.. حذارِ من مثلها.. أنت لست بلا قمر.. ربي أكثر رفقاً بك.. سأدعوه أن يهبك مَنْ تعوضك!
لا تغب عن طريقي.. يا "حبيبي"!
عرفتُ ربي بأبي -رحمه الله- الشيخ "ثابت توفيق" الأزهري المُعمم، خريج أصول دين 1964م، وكان لفرط حساسيته يريد إلغاء بعض من اسمه المُركب لئلا يثقل عليَّ حتى في الاسم.. فشاء الله أن أحمل طوال عمري اسمه، كما أن وجهي بعضاً من "قسمه"!
وعرفتُ في المحنة "ربي"، سبحانه وتعالى، وليغفر لي حديثي المباشر إليه تعالى، عرفتُ في المحنة في ليل "المنيا" في الطريق بين كليتي الآداب والتربية المهجور أيامها، في رفضي لفتات رضا من زميلة مهما كانت غنيّة أو جريئة أو فاتنة، وتشاجرتُ مراراً وتكراراً مع تلاميذ الراحل "طه حسين" الذين نالوا الدكتوراه بعد رحيله من "جامعة أسيوط" ثم نزحوا إلى "المنيا" وكانت محاضراتهم لا تتم بسبب ما كانوا يرونه من شغبي، وأراه رفضاً لأفكارهم العلمانية والشيوعية، حتى حاول "احتوائي" الدكتور "علي البطل" -رحمه الله- فقد كان آية في الفهم، في عامي الأخير قال:
– طيف أبيك يا "حَمام" سيمنعك عنا رغم محبتنا أن "تشرف" تنظيمنا، ربى "الشيخ ثابت" يا "محمد" فتاً أديباً أبيّاً يرفض الزميلات.. وإن حفظ أغنيات الحب كلها، ولن تستطيع حتى "الجماعات الإسلامية" ابتلاعه؛ إذ ستكون نسيجاً، وحدك، يا "واد" ليت ابني يتذكرني مثلما تتذكر أباك.. ابن "الـ…" ابني.. سيفرح بالنقود..
كُنّا في رمضان في آداب المنيا، المحاضرة الأخيرة من أعوام دراستي كلها.. يومها، وكنتُ في العام الرابع على وشك التخرج بكيتُ، واحتضني الرجل.. طالباً من جميع الزميلات الخروج.. صائحاً:
– أربع سنوات ترونه قوياً.. لن أسمح لإحداكن أن تراه ضعيفاً!
حسدوني على أبي حيّاً وميتاً..
هذا أكثر ما آلمني..
وللحديث بقية ما دام للعمر بقية فقد "أذن المغرب"!
"يُتبع"
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.