نصف فراق.. نصف لقاء

لكنه موت له بعض خواص الحياة كأنه كائن حي يجثم الموت على صدره طيلة اليوم، وبعض مرضى الفصام العقلي يعيشون بعالم خاص بهم، له معتقداته الخاصة الثابتة التي يتندر بعضنا عند سماعها، لكنها بالنسبة له هي عين اليقين، وله الأصوات والأشخاص الذين يسمعهم ويحدثهم ويحدثونه، فهو على قيد الحياة، لكنه ليس على قيد الواقع!

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/19 الساعة 01:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/19 الساعة 01:46 بتوقيت غرينتش

تذكرتكم فمسَّني طيف من شجن جميل، ولعل من أعجب الحقائق في هذه الحياة أنها تستمر بعد فراق الأحباب.
ربما استمرار الحياة أمر نسبي وله معانٍ عدة.. فالبقاء على قيد التنفس والحركة قد لا يعني البقاء على قيد الحياة.. فكم من مريض بالاكتئاب أرى بهيئته ورائحة نفسه وكلماته معنى حرفي للموت يغاير المعنى البيولوجي ربما!

لكنه موت له بعض خواص الحياة كأنه كائن حي يجثم الموت على صدره طيلة اليوم، وبعض مرضى الفصام العقلي يعيشون بعالم خاص بهم، له معتقداته الخاصة الثابتة التي يتندر بعضنا عند سماعها، لكنها بالنسبة له هي عين اليقين، وله الأصوات والأشخاص الذين يسمعهم ويحدثهم ويحدثونه، فهو على قيد الحياة، لكنه ليس على قيد الواقع!

ورغم أن الفراق ذاته أمر نسبي إلى حد بعيد، فهناك لقاء لا فراق له، وهو لقاء الأرواح التي لها قوانين وعوالم أخرى مغايرة عن عوالمنا تلك، لا نعرف عنها شيئاً ربما، لكن ثمة يقين بأن هناك روحاً وبأنها تشعر وتحب وتبغض وتهيم بملكوت الله.

وقد قال الإمام ابن القيم في وصفه للحب بأنه: امتزاج الروح بالروح لما بينهما من التناسب والتشاكل، فإذا امتزج الماء بالماء امتنع تخليص بعضه من بعضه، وقد تبلغ المحبة بينهما حتى يتألم أحدهما بتألم الآخر.

والروح المحبة مثل قارورة فضية تسكب في أرواح أحبابها حتى تصير بعضاً منها.. فما هو الفراق إذن؟
وهل اللقاء هو أن يجاور المرء أشخاصاً لا يشبهون روحه ولا يرون مواطن الجمال في نفسه ولا تصيب نفوسهم كدر إذا تألم أو ضاق به العيش؟
أم أن الفراق هو تباعد الأجساد حتى تكاد الأعين لا تتلاقى، بينما يضيق الصدر إذا همّت روح بافتقاد الأخرى، وقد تمرض لمرضها وتبكي لبكائها وتراها دون أن تراها في أكوان موازية حين يستبدل البصر بالبصيرة.. لحظتها تصير الأرواح على قيد اللقاء الأبدي بينما الأجساد قد قيدت بسجلات الفراق.

أغار كثيراً من التراب الذي يواري جمال الحكايا والدفاتر التي أغلقت على أحلام البشر؛ لأنها تتلامس مع واقع ما ومن كل عابر غريب يجلس على ذات المقعد الصخري أمام البحر عند الغروب، حينما تعاهدت الأرواح على البقاء معاً ثم أصاب العهد داء الفراق وأصاب الفراق داء آخر جعله لا يشبه الفراق، وظلت عالقة هناك على المقعد الصخري يعانق بعضها بعضاً عناقاً أبدياً لا يعرف فراقاً مادياً ولا أبعاداً فيزيائية ولا مسافات وتنظر للواقع وتسخر ولا تدري أمن الواقع تسخر حقاً أم من أنفسها!

وربما تتقاطع الطرق وتتلاقى الأجساد ثانية بعد غياب جد طويل، تعبر الأجساد مثقلة بمحاذاة المستحيل، وتمضي في غياهب الأيام لكن الروح… الروح فقط.. تقف هناك عند نقطة اللقاء تهيب بالجسد الترابي أن انتظر توقف اقترب لا ترحل… لا تخلف وراءك كل تلك الهزائم والدموع.. تقف الأرواح بعدما تيأس من واقع غريب تتعانق كأنها لقيا بعد غياب.. تتلمس عطر الجسد في المكان.. ترسم حول حيز الفراغ ابتسامة شجن رسمت على أوجه أعيتها المسافات.. تتلمس أحاديث لم تقَل ومقطوعات موسيقية لم تعزَف… تتلمس واقعاً كان يجب أن يكون، لكنه محض خيال جميل على صفحة نهر الأحلام.

أهناك أصعب من حالة كتلك؟! نصف فراق ونصف لقاء كزهرة ألقيت ببئر ليس لها قرار… تسقط وتسقط وبعد كل مسافة شاسعة تفقد وريقة من وريقاتها حتى تنتهي دون أن تموت! تتبقى لها ظلال وأشباح تواصل السقوط، لا ترضخ ولا تعترف أبداً بالقاع كأن بعد عبور البئر يقبع الفردوس.
تحلم بفردوس مفقود تكتفي بكونه هناك كنجمة سرمدية انفجرت منذ سنوات طوال، لكن طيفها ما زال يداعب العين كأعظم سراب في عالم الحقيقة، وأعظم حقيقة بين ليلة وضحاها صارت سراباً.

تحلم بفردوس جميل.. مثل قوس قزح بعد نهر شتوي مطير.. طيف من ألوان عدة ساحر، بعيد المنال، لكنه محض وَهْم جميل!
وهل عرف الكون وَهْماً أجمل من قوس قزح؟!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد