الهجرة أو الغربة ليست فقط أن تكون في مكان غير الذي نشأت فيه، تحدّه بلدان وبحار، الهجرة يا أصدقائي هي أيضاً أن تنتمي إلى الجامعة أكثر من البيت، وأن تنتمي إلى العمل أكثر من نفسك، وأن تنتمي إلى طموحاتك أكثر من أهلك، وأن تسافر إلى ما وراءك تاركاً نفسك أمامك، وأن تنتمي إلى القيد وأنت تدّعي أنّك تهاجر بسببه إلى الحرية، وأن تنتمي إلى الشارع أكثر من عائلتك، وأن تهاجر إلى الفاست فود تاركاً خلفك الدقيق، وأن تنتمي إلى الساندويتش أكثر من المطبخ وأكلاته التقليدية، وأن ترحل إلى عالم كنت تتصوره الحياة وخلفك الحياة.
واليتم يا أصدقائي ليس فقط أن يموت والداك، وإن كان فقدان الوالدين أعظم يُتم في الدنيا، اليتم أيضاً هو أن تمتلك يدَين وهنتين لا تمتلكان القدرة على استشعار الدقيق حين يعانق الماء في قصعة.
اليتم هو أصابع ميتة وعقيمة لا تشعر بدغدغة الكسكس وهو يولد من فركها أسفل الراحتين، فيسّاقط في الكسكاس رطبا جنيّاً.
أمّي لا تعلم شيئاً عن الحرقة التي تعتريني والحسرة التي تتلحّفني والخجل الذي يتملّكني؛ كوني لم أتعلم منها حرفة النسيج، ويا ليتني أتدارك غلطتي بعد عودتي فلا تختفي موهبة من مواهب أمّي التي لا تقدّر بثمن.
وقد تعتقد جلالتها أنّني أحترق إن لم أوفّق في شيء يمتّ بصلة لدراستي أو عملي، لكنّني لا أحترق لمصاب يلمّ بنصيبي فيهما إلّا لأنّني لا أشعر بانتمائي لهما بالقدر الأكبر، وأكابد لأتحرّر من قيودهما، ولو بتقاعد فيما تبقى من عشريناتي المرهَقة وهذا مستحيل، فأنا لا أشعر بالحريّة في حياتي، ولا أستمتع بها بمجرّد التفكير في مسؤولية دراسة أو عمل عليّ إتمامهما، والتعذّب في مضمارهما في مجتمع كمجتمعي، وفي ظروف كتلك التي تعترض طريقي في بلدي، مع أنني والحمد لله أنجزت فيهما ما أسعدني وغيري مراراً وتكراراً، ولولاهما أيضاً لما ألهمت غيري.
أنا لا أشعر بانتمائي للترجمة ولا للتدريس ولا للعلاج النفسي ولا للأدب بقدر ما أشعر بانتمائي لعائلتي، للمطبخ، للفرن والكانون والجفّاف والأواني والخضار والدقيق والقصعة والغربال والسكر والملح والتوابل والنبات والتراب والماء، وقد أحدث وحدي انتفاضة إن غاب الدقيق ليوم عن البيت؛ لأنني أشعر بالأمان المطبخي في وجود الدقيق.
أنا لا أفرح بنشر قصيدة بقدر فرحتي عندما يعجب أبي وأخي بطبق أعددته، أنا لا أشعر بانتمائي لدراستي وعملي ومواهبي الأدبية -وإن كنت والحمد لله تعلّمت بفضلهم الكثير-، أنا لا أشعر بالانتماء لهم بقدر ما أشعر بانتمائي إلى البيت، إلى الحياكة والصوف والطرز، فموهبتي في الحياكة تفجرت قبل موهبتي في كتابة الشعر أو التنشيط، وأذكر أنني أتقنت الحياكة بسنّارة واحدة وأنا في الثامنة من عمري وكنت في الصف الرابع، وموهبتي في فتل الكسكس تفجرّت قبل موهبتي في كتابة الرواية، وأذكر أنّني يوم جلست مع أمي تعلّمني كيف أفتل الدقيق لأرديه كسكساً كنت في الثاني عشر من عمري أي في الصفّ الثامن، وهو التوقيت نفسه الذي أتقنت فيه عجن الدقيق، حتّى إنّ موهبتي في صنع الكعك تبلورت قبل موهبتي في كتابة الشعر الإنكليزي، وقد كنت يومها في الرابعة عشرة من عمري، وأذكر أنّني استطعت التغلب على خوفي في حياكة الصوف بسنارتين قبل أن أتغلّب على خوفي في ترجمة الشعر، أو الخوض في مقابلة مع مريض نفسي.
وإنّني لأعتبرها مواهب أكثر من هوايات، مواهب من الله ثمّ من يد الأنوثة التي ترعرعت في داخلي بفضل أمّي.
أنا أشعر بانتمائي إلى البيت بحلوه ومرّه أكثر من شعوري بالانتماء إلى دراساتي وعملي بمرّهم وحلوهم.
في البيت يمكنني أن أغنّي لفيروز بحريّة ويمكنني أداء الموشحات الأندلسية بحريّة ويمكنني أن أضحك بحريّة.
وأذكر يوم كنا في الصف السابع أنّ أستاذ التاريخ والجغرافيا سألنا إناثاً وذكوراً قائلاً: "من يتقن الطبخ؟" فوجدت نفسي التلميذة الوحيدة التي رفعت يدها اعتقاداً منّي أن كلّ الفتيات سيرفعن أيديهنّ فخجلت وسحبت يدي خشية أن يسخر القسم منّي وشعرت بالخيبة والحزن على طفولتي الضائعة في المطبخ، ولم أكن أدري أنّ أمّي وحدها من كانت تصنع امرأة ستعشق البيت يوماً ما ابتداء من ذاك السنّ، رغم أنّها كانت لتسلخ جلودنا من أجل الدراسة، لو حدث وأن تمرّدنا على الكرّاس والكتاب والقلم والمعلّم، بل وطاولة الدراسة بالبيت.
بقدر ما كانت أمي تحرص على تعليمي وتثقيفي ونجاحي الدراسي والعملي فيما بعد، وبقدر ما كانت تشتري لي كتب الأدب القديم والمنفلوطي وجبران والرافعي وغيرها من الكتب المتفرقة عناوينها واختصاصاتها وجنسياتها ولغاتها في صغري، وبقدر ما كانت تحاول إقناعي بأن أدخل كلية الطب الذي لا أميل له، بقدر ما كانت تحرص أيضاً على حفظنا القرآن وترتيله وبقدر ما كانت تزرع في قلبي حبّ المطبخ الخارق للعادة بالنظر إلى السنوات الطويلة التي قضيتها في الدراسة أتمتع فيها بتفوق تلو الآخر.
نعم غرست فيّ أمي حبّ المطبخ والبيت والأشغال اليدوية وهي لا تدري، خاصة عندما ينتابني التعب فأتمرّد أحياناً بالتضجّر من الأشغال المنزلية، وكانت تحبّ أن أحبّ البيت، وأن أكون سيّدة في البيت وسيدة في دراستي وفيما أختاره من عمل.
أنا لا أشعر بانتمائي لأي اختصاص بقدر ما أشعر بانتمائي للدقيق، وما أزال أقدّس ما تربّت عليه أنوثتي، صدّقوني أنا لا أشعر بانتمائي للورقة والقلم بقدر ما أشعر بانتمائي لأنوثتي، فامرأة لم تربط حزام الأمان المنزلي ولم تصاحب الخضار ولم تستشعر نعومة الدقيق وخشونته ولم تتقن فنون الطبخ أو الأشغال اليدوية هي في نظر نفسي التي أحترمها وذاتي التي أقدّرها امرأة لم ترتدِ حلية الأنوثة ولم تجرّب فرحة الأداء الأنثوي على ركح المنزل.
امرأة لم ترَ فرحة طفلها بقفاز صوفي من صنع يديها، امرأة لم تفاجئ زوجها بهدية صوفية من غزل أناملها ولم تسمع عبارات شكر وحبّ وتقدير وإعجاب خاصة وحصرية منه لدى حياكة سترة صوفية أو شال بلونه المفضّل هي امرأة عادية جدّا.
امرأة تعيش فقط على لفّ ربطات العنق وعلى اقتناء ماركات غربية هي امرأة معقدّة الذوق لم تجرّب حلاوة البساطة وجمالها ولم تقتبل الحبّ من يديها المتواضعتين.
امرأة كهذه لو وصل صيتها إلى العالم بأسره ستبقى جائعة وأهلها فقراء، فطوبى لمن جمعت بين العلوم وفنون المنزل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.